في بلد يفترض أنه مهد التعايش والاحترام المتبادل، يطل علينا بين الحين والآخر من يظن أن الاستفزاز بطولة، وأن المس بالمقدسات نوع من الشجاعة.
آخر فصول هذا الانحدار فيديو صوّر أمام تمثال السيّدة العذراء في حريصا، أُضيف إليه نشيد شيعي في مشهد مقصود ومهين، لا يمكن وصفه إلا كصفعة على وجه كلّ لبناني لا يزال يؤمن بأن هذا البلد يمكن أن يجمع بين المآذن والصلبان تحت سماء واحدة.
ما الذي يدفع شاباً إلى هذا المستوى من الانحطاط؟ هل هي قناعة دينية فعلاً؟ أم مجرّد محاولة رخيصة لجذب الانتباه في زمن الهزائم؟ أم أن التحريض الممنهج بات جزءاً من ثقافة تغذيها أحزاب لا تتقن سوى صناعة الأعداء؟
مهما كان السبب، فإن النتيجة واحدة، تشويه صورة الطائفة والحزب الذي يدّعي الانتماء إليه، وضرب ما تبقى من خيط هش يجمع اللبنانيين حول فكرة الاحترام المتبادل.
هؤلاء لا يمثلون الدين ولا المذهب، بل يمثلون انحلالاً أخلاقياً وغروراً فارغاً، فالدين لا يختزل في الأغاني الطائفية، ولا في استعراض القوة أمام تمثال مقدس، بل في الرحمة، والتواضع، والاحترام.
ومن يظن أن السخرية من رمز مقدس تزيده شأناً، فهو لم يتعلم شيئاً من إيمانه، ولا من إنسانيّته.
لكن الخطأ لا يقف عند حدود الأفراد، المسؤولية أولاً على الحزب الذي يترك لهؤلاء مساحة التحريض، ثم يتبرأ منهم حين تثار الضجة، وكأن التحريض لا يزرع في بيئته، وكأن الكراهية لا تروى بخطابه.
والمسؤولية أيضاً على الدولة الصامتة، التي تكتفي بالمراقبة وكأن الإهانة لم تطل جزءاً أساسياً من كيانها الوطني، وكأن احترام الرموز الدينية رفاهية لا تستحقّ الدفاع.
حين يهان الدين باسم الحرية، ويُبرَر التهريج باسم التعبير، تفقد الدولة معناها، ويفقد المجتمع احترامه لذاته.
التحريض الطائفي ليس "زلة لسان" ولا "غلطة شباب"، بل جريمة ضدّ فكرة الوطن، وإذا لم يحاسب أصحابها، فستصبح القيم التي بني عليها لبنان مجرد نصب حجري، مثل تمثال العذراء الذي وقف صامتاً أمام الإهانة، كما يقف البلد اليوم صامتاً أمام سقوطه الأخلاقي.
لبنان لا يحتاج إلى فيديوهات تستفزّ الطوائف، بل إلى ضمائر تستفزّ الفاسدين.
لا يحتاج إلى "أبطال" يختبئون خلف الأناشيد، بل إلى رجال يرفعون صوتهم في وجه الانحطاط، قبل أن تسقط الأخلاق نهائياً.. تحت قدمي العذراء.