في تاريخ 17 أيلول 2006، صادقت الحكومة الإسرائيلية على تأليف لجنة تقصّي حقائق حملت إسم رئيسها إلياهو فينوغراد “لاستيضاح استعدادات وأداء المستوى السياسي والمؤسسة الأمنية في ما يتعلق بالجوانب المختلفة للقتال في الشمال الذي بدأ في 12 تموز 2006″، ليصدر تقريرها الموقت في نيسان 2007 وقد وجّه نقدًا ذريعًا لأولمرت وتوصّل إلى أنه تسرّع بالذهاب إلى الحرب، وحمّله التقرير مع قادة آخرين مسؤولية “فشل ذريع” في الحرب.
وكان رئيس الأركان الإسرائيلي دان حالوتس قد استقال قبل صدور التقرير الموقت، كما استقال وزير الدفاع عمير بيريتس عقب صدوره، لكن أولمرت تمسّك بمنصبه على رغم المعارضة القوية.
وفي التقرير النهائي الذي صدر في 30 كانون الثاني 2008، اعتبرت لجنة فينوغراد “أن مسؤولية الأخطاء الكثيرة في تلك الحرب تقع على عاتق صانعي القرار من القادة السياسيين والعسكريين”، والجدير بالذكر أن الحرب قد تمخّضت يومها عن إنجازات دبلوماسية ملحوظة، فكان قرار مجلس الأمن رقم 1701 وتبنّيه بالإجماع إنجازًا لإسرائيل… ولدى التحدّث عن استخلاص العِبَر يجب الأخذ بالحسبان أن الأعداء هم أيضًا يستخلصون العِبَر… توصياتنا تشمل مقترحات تقضي بإدخال تغييرات منهجية وعميقة في طرق التفكير والعمل التي ينتهجها المستويان السياسي والعسكري والتعامل بينهما، سواء في الأوقات العادية أو في أوقات الطوارئ بما في ذلك أوقات الحرب. وهذه هي مسيرات عميقة وحاسمة”.
لقد استعاد اللبنانيون والمشاهدون العرب تأليف لجنة فينوغراد كما استعادوا مقرراتها واستنتاجاتها وتوصياتها ومن بعدها تداعياتها السياسية على المشهد الإسرائيلي، بعد ما شاهدوه وسمعوه مصدومين من مسؤول “ملف الموارد والحدود” في الحزب النائب السابق نواف الموسوي الذي قال لتلفزيون الميادين بتاريخ 3 آذار 2025 “إنجازات الإسرائيلي التي يتفاخر بها ضدنا لم تكن ناجمة عن ذكاء، بل عن قصور لدينا وأحياناً تقصير، مثل هجوم البيجر” الذي أودى بحياة 37 مقاتلاً وجرح أكثر من 4 آلاف شخص، وكان يفترض بالسيد الشهيد حسن نصر الله (رحمه الله) أن يتخفّى، لا أن يكتفي بالاحتماء فقط، وأن يتخذ تدابير أكثر حذرًا…
لكن من الواضح أن السيد والمجموعة التي كانت معه وقت استشهاده اتخذوا قرار البقاء في الضاحية الجنوبية استنادًا إلى ثقة في اتفاق الهدنة المعلن لمدة 21 يومًا، ولم يتوقعوا أن نتنياهو كان يكذب ويمكر ويخطط لخرق هذا الاتفاق… وصفي الدين أخطأ ببقائه في نفس مكان اغتيال نصر الله… كيف أنّ الجهات المعنية في الحزب لم تبادر إلى فحص أجهزة البيجر” مع انه قال في المقابلة “إنّ الحزب قادر على تعريض الاحتلال لضربات إذا عوّض القصور وأنهى التقصير وحلّ الاختراقات التقنية والبشرية”، ومع اعتبار الحزب وأمينيه العامين السلف والخلف ونواف أن عملية تفخيخ البيجر “ترقى الى جريمة الحرب”، كشف الموسوي “أن الحاج عماد مغنية هو مَن اخترع تفخيخ البيجر سابقاً”.
في حديثه الى الميادين، وضع نواف الموسوي حزبه وقيادته وأجهزته الأمنية أمام التساؤلات والمساءلة والمحاكمة فالإدانة، أين منها تداعيات تحقيقات “لجنة فينوغراد” الاسرائيلية، والتي أطاحت بحكومة العدو وجهازه الأمني والعسكري بسبب “تقصير” و”إهمال” و”تسرّع” و”تهوّر” لم يصل الى ما ارتقى اليه الحزب وقيادييه وأمنه الداخلي والخارجي من قصور وتقصير وأخطاء وخطايا أوردها القيادي في الحزب مسؤول ملف الحدود والموارد.
على الرغم أن ما قاله الموسوي عارفاً ببواطن أمور الحزب ناقضَ الى حدٍّ كبير ما دأب الحزب وقياديوه على الإدلاء به محاولين تسويق عقيدة آلهية مفعمة وزاخرة بالانتصارات والإنجازات، فقد مهّد لما قاله الموسوي الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم في تاريخ 27 كانون الثاني 2025 :”إن بعض جمهور المقاومة لديه تساؤلات وتفاجأ بما حصل، مؤكداً أن هذا حق مشروع.. الحزب لم يتوقّع قتل القيادات بهذه الطريقة وبهذه الشموليّة… الانكشاف المعلوماتي وسيطرة العدو على الاتصالات والذكاء الإصطناعي وسلاح الجو، الذي غطّى لبنان بكامله من العوامل المؤثرة في الضربات التي وجهت… وأن الحزب يجري الآن تحقيقاً لأخذ الدروس والعبر واتخاذ الإجراءات اللازمة”.
وتنسجم مساءلة ومحاسبة الموسوي وقاسم مع ما قاله في 27 آب 2006 أمين عام الحزب الراحل حسن نصرالله: “تسألينني لو كان هناك احتمال واحد في المئة أن توصل عملية الأسر في 12 تموز الى حرب كالتي حصلت أقول قطعاً لا! لأسباب إنسانية وأخلاقية واجتماعية وأمنيّة وعسكرية وسياسية، لا أنا بقبل ولا “الحزب” بيقبل ولا الأسرى اللي بالسجون الإسرائيلية بيقبلوا ولا أهالي الأسرى بيقبلوا؟”. وليكشف لاحقًا نائبه الشيخ نعيم قاسم في 12 شباط 2016 أن “الحزب كان لديه تصوّر عن حرب تموز 2006 وكنا نتوقع السيناريو”.. ما يضع الحزب وقيادته أمام “فينوغراد” لبنانية شعبية سياسية وقضائية منذ أخطاء العام 2006 وصولاً الى خطايا الحزب وقيادته
(2023-2024).
رب قارئ متسائل كيف لكاتب أن يتماهى مع العدو معجباً بإجراءاته وتحقيقاته ومراجعاته ولجنته ليرد السيد نصرالله على القارئ المتسائل في 25 أيار 2013: “للأسف، الإنسان يتحدث عن عدوه وهو يحسن صنعاً، في ما يعني مصالحه ومشاريعه، لديهم وزارة خاصة إسمها وزارة الجبهة الداخلية، هناك وزير الجبهة الداخلية، هذا عمله إن حصل أي شيء على الكيان هو يدير الجبهة الداخلية كلها. هذا ملف، له صاحب، له مسؤول.. عند العدو هناك وزير جبهة داخلية.. وهذه إسرائيل أيضاً منذ حرب تموز 2006 كل يوم تتدرّب وتتجهز وتضع خططاً وتعيد النظر في الخطط وتناور على الحروب، وأذرع مشتركة… بحثوا نقاط الضعف. أنا لا أتحدث بكل هذا لتعبئة وقت، رأوا نقاط الضعف أين، والنواقص أين وأين، عالجوها في السنة الثانية والثالثة وسادس سنة. الآن يقول العدو: لدي جبهة داخلية صلبة وجاهز للحرب على كل الجبهات ولأسوأ الفرضيات”.
انطلاقاً من إعجاب السيد نصرالله بعدوه ومراجعاته ومعالجته للنواقص ونقاط الضعف، وانطلاقاً من الخطايا وعدم التعلّم من الأخطاء التي تحدّث عنها قياديو الحزب عن أدائهم وأداء أجهزتهم الأمنية، تصبح المحاسبة والمساءلة والمحاكمة وحتى الإدانة مطلوبة لا بل ضرورية،
ولن تعود تنفع “الاجراءات العقابية الزجرية” بحق الموسوي الذي كشف حقيقة الانتصار المرّة الصعبة على الحزب وبيئته… وكان يُفترض بالموسوي أن يضيف خطيئة كبرى لا بل جريمة كبرى إضافية أساسية اقترفها الحزب وعلى أساسها يُفترض أن يُساق الحزب ومسؤوليه الى المحاكم الجنائية المحلية والدولية هي في خيار زجّ لبنان في الإسناد والحرب والتدمير الذاتي، وعلى ما تبيّن من دون دراسة ولا دراية ولا تمكين بل “قصور وتقصير وأخطاء وخطايا”.
لن نجد إضافةً الى تجريم الحزب لنفسه،أفضل من كلمة الرئيس جوزاف عون أمام القمة العربية في 4 آذار 2025 ليُكمل ما لم يقله نواف الموسوي عن التوريط القاتل في “حرب الآخرين على أرضنا” إذ قال فخامته: “فحين تُحتلُ بيروت، أو تُدمّرُ دمشق، أو تُهدّدُ عمّان، أو تئنُّ بغداد، أو تسقطُ صنعاء.. يستحيل لأيٍ كان أن يدّعي، أنّ هذا لنصرة فلسطين”.