قال وزير دفاع الولايات المتحدة الأميركية في عهد الرئيس جون كيندي في 14 أيلول من العام 1961 روبرت ماكنمارا، في محاضرة ألقاها أمام أساتذة كلية الدفاع الوطني في واشنطن: “علينا أن نرغم الاتحاد السوفياتي على تغيير أولوياته. فالنظام الشيوعي يَعِد جماهيره بمجتمع من الرفاهية ينتفي فيه الفقر، وبمجتمع المساواة الذي ينتفي فيه التمايز الطبقي. لكي يحقق هذا الهدف يجب عليه أن يضع التنمية أولوية قبل الأمن. هنا ينبغي علينا أن نرغمه على أن يجعل الأمن أولوية ثم يضع التنمية في الدرجة الثانية. يجب علينا، من أجل ذلك، أن نشدّه إلى سباق تسلح يقطع أنفاسه، ويرهن موارده، ويتركه في النهاية ترسانة نووية من دون رغيف خبز أو قطعة لحم”.
لقد مرت عقود من الزمن على تلك المحاضرة -المخطط وعقود أخرى على سقوط الاتحاد السوفياتي الذي سلك من دون دراية او علم او قراءة لما قيل واعلن في خطة العم سام – الفخ والتي عرفت في التاريخ الحديث بـ”سباق التسلح”، والذي جعل السلاح اولوية والصرف والهدر على القوة الحديدية غاية لا وسيلة سقط فيها الانسان وحاجاته وحريته وتقدمه ونموه وازدهار بلاده وتقدمها لصالح الترسانة النووية السوفياتية والتي عادت وتقاسمتها الدول المنشقة عن الاتحاد ان لم نقل سلمتها وباعتها لدول الغرب المعادية.
على الرغم من التجربة الجلية الواضحة بنتائجها الكارثية الوجودية لاولوية القوة والسلاح والتسلح وتأمينه على “الخبز” وتأمينه والتنمية والازدهار وجوهر الحياة الانسانية، ها نحن نعيش اليوم في لبنان صورة منقحة مصغرة عن بدايات انهيار الاتحاد السوفياتي باستنساخ التهافت على السلاح وتمويل حامليه فيما بيئة حملة السلاح ترزح تحت عبء التهجير، الجوع، العوز والموت.
على الرغم كذلك من انقطاع سبل التمويل والدعم والتسليح بعد قطع شرايين ايران والحزب بسقوط النظام السوري الاسدي وبعد تسلّم الدولة اللبنانية لمعابر التهريب الشرعية وغير الشرعية، ما زال الحزب يسعى بطرق ملتوية الى اعادة عقارب ساعات تفضيل “ثقافة الموت والسلاح” على “ثقافة الحياة والسلم والازدهار” ومن هذه المحاولات قراءته الحصرية الاحادية لمصير سلاحه الذي بتّ وحسم وطويت مرحلته والتي كانت تقول بـ”جيش شعب مقاومة” لتصبح من الماضي على ما ورد في اتفاق الطائف والقرارات الدولية واتفاق وقف اطلاق النار، واخيراً في ما اكد عليه خطاب القسم والبيان الوزاري وما شدد عليه رئيس الحكومة القاضي نواف سلام في 20 آذار 2025 لقناة العربية.
وامعاناً في تكرار سقوط المسلح في شرك سلاحه رد المفتي الجعفري الممتاز الشيخ احمد قبلان 21 آذار 2025: “أنت رئيس حكومة بلد حررته المقاومة وما زالت تدافع عن وجوده وسيادته وكيانه بكلّ ما أُوتيت من قوة وتضحيات وجود لبنان وسيادته وثقله مرهون منذ عقود بتضحيات المقاومة وثقل قدراتها وسط شراكة تامة مع الجيش وشعب هذا البلد، المقاومة مقاومة بحجم نصف قرن من التضحيات السيادية، هذا يعني أن المقاومة تساوي نصف عمر لبنان منذ تأسيسه، وشطبها يمر بشطب لبنان وسيادته… لولا تضحيات الحرب الأخيرة وهزيمة الجيش الأسطورة على تخوم الخيام وباقي القرى الأمامية لما بقي بلد وعاصمة وسيادة واستقلال.. لسنا هنا للتحدّي والتهويل لكن أي وطن بهذا العالم إنما يبقى ويستمر بقوته وليس بخطاباته وبياناته، وإدارة البلد بهذه العقلية تضعنا بقلب كارثة داخلية… احتكار السلاح يمر بتأمين قوة وطنية بحجم قمع قوة إسرائيل وكسر هيمنتها، لا التفرج على عدوانها واحتلالها… المقاومة قوة تحرير عُليا وفعل سيادي تاريخي وواجب وطني وضمانة وجودية للبنان ولن يقوى أحد بهذا العالم على شطبها الحل بالإستفادة من المقاومة عبر السياسة الدفاعية وليس بشطب أكبر قوة سيادية ضامنة للبنان”.
ليكرر قبلان حالة النكران وعدم القراءة وعدم الاستفادة من تجارب “معتنقي” السلاح غاية لا وسيلة ومن تجربة من رحل ضحية لهذا السلاح وكان سبق ان قال في 7 أيار 2008 متوجهاً الى أخيه اللبناني: “السلاح للدفاع عن السلاح”، في خطبة عيد الفطر في 31 آذار 2025 مهدداً اللبناني لا الاسرائيلي: “السلاح الذي حرّر لبنان هو أقدس سلاح، وأي محاولة لشطبه ستضع البلاد أمام أخطر مرحلة في تاريخها”.
لقد املت قدسية السلاح هذه على الاتحاد السوفياتي السير بخطى حثيثة نحو نهايته المحتومة المعلومة من وزارة الدفاع الاميركية ومخططيها، اذ ان الصواريخ والترسانة والوعود بالتوازن والتفوق لم تطعم جياع الاتحاد ولم تستطع ان تسكت أحراره، كما املت القدسية ذاتها على الحزب ان يركض بسرعة قصوى هو ووليه الايراني نحو بداية نهايتهما او انهائهما على ما نرى ونسمع وما قرأنا ونقرأ، ويشرح هذه القدسية “القاتلة”، بالاضافة الى مسؤولي الحزب الحاليين والمفتي قبلان، الامين العام للحزب وضحية سلاحه في تصريح أوردته صحيفة النهار في 27 كانون الثاني من العام 1986: “يجب أن نعمل على إنضاج الممارسة للحالة الجهادية، فعندما يصبح في لبنان مليونا جائع، فإن تكليفنا لا يكون بتأمين الخبز، بل بتوفير الحالة الجهادية حتى تحمل الأمة السيف في وجه كل القيادات السياسية” ليستقوي لاحقاً بالنظام الآيل للسقوط والمقطعة معابره وشرايينه واذرعه في الشرق الاوسط بقوله في 24 حزيران من العام 2016: “طالما بإيران في فلوس نحنا عنا فلوس”، اذ ان الفلوس المرتقب وصولها مراقبة بشدة من ايران مرورا بالعراق وسوريا وصولاً الى لبنان.
“…وهناك البكاء وصرير الاسنان…”