عادت الإنذارات، عادت الغارات، وعادت الذكريات، الذكريات الموجعة التي طالت كلّ لبنانيّ، من الجنوب إلى الشمال. الحرب لم تترك أحداً بحاله. فإذا لم نخسر شخصاً أو منزلاً، خسرنا فرحنا، راحتنا النفسيّة، نومنا، أو طمأنينتنا.
منذ سنة، لم تعُد الأصوات أصواتاً عادية. كلّ صوت قويّ يُذكّرنا بغارات الثالثة فجراً ويُعيدنا إلى لحظة الخوف الأولى. حتى الطائرة العادية التي كنّا نفرح عند مشاهدتها صغاراً، أصبحنا نخاف من صوتها، لعلّها مسيّرة استطلاع إسرائيليّة.
فهل يستطيع اللبناني التحمّل والصمود أمام حرب جديدة؟
تشير الاختصاصية النفسية مايا دبوك، في حديث خاص إلى موقع "LebTalks"، إلى أنّ "الحالة من الانتظار الدائم - بين "هناك حرب" و"ليس هناك حرب" - تستنزف الإنسان نفسياً أكثر من الحرب نفسها، لأنها تُبقيه في توتّر دائم، غير قادر على الشعور بالأمان، ولا على تفريغ مشاعره". وتؤكّد أنّ "الإنسان بطبيعته يحتاج إلى أن يعرف مصيره حتى لو كانت الإجابة إجابيّة (نعم، هناك حرب)، على الأقلّ سيعرف كيف يتصرّف ويتأقلم".
وتلفت دبوك إلى أنّ "اللبنانيّ يشعر اليوم بالخوف عند سماع صوت انفجار أو طائرة، لكن إذا اندلعت الحرب سيتأقلم معها"، موضحةً أنّ " الإنسان يعيش في حالة "تجميد للمشاعر" أو "Freeze"، أي يكبح انفعالاته للاستمرار وسط الخوف، ما يجعل استجابته للخطر مختلفة عن السابق".
وتشير إلى أنّ "ليس كلّ من عاش الحرب يعاني بالضرورة من صدمة نفسيّة (Trauma)، إلا أنّ جزءًا كبيرًا يُظهر أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، خصوصًا الجيل الذي عاش الحروب المتكرّرة. كما تشرح أنّ "بعض الأشخاص لم يعيشوا الغارات مباشرة، لكنهم تأثروا بها عبر مشاهدتها على الشاشات، أو اهتزاز منازلهم، أو خوفهم على أحبائهم، وهذا ما يُعرف بالصدمة غير المباشرة (Secondary Trauma) أي التأثُّر بالحدث الصادم من دون التعرّض له مباشرة".
وترى دبوك، أنّ "اللبنانيّ لا يزال قادرًا على الاستمرار، لكنّ طريقته في التأقلم ليست صحيّة دائماً. فالكثيرون يعتمدون على الإنكار (Denial) كآليّة دفاع نفسيّ تمكّنهم من الاستمرار، فيسمّون هذا الإنكار "مرونة"، بينما المرونة الحقيقيّة (Resilience) تعني مواجهة الألم والتكيّف معه، لا تجاهله".
الأطفال.. الصمت المليء بالقلق
توضح الاختصاصية النفسية أنّ "الأطفال هم الفئة الأكثر تأثرًا بالحرب حتى لو لم يعيشوا الحدث مباشرة، لأنهم يلتقطون خوف الأهل"، وتقول: "قلقهم يظهر بطرق غير مباشرة مثل البكاء المستمرّ، التبوّل الليلي، الكوابيس، أو التعلق الزائد بالأهل". وتشير إلى أنّ "الأطفال يشعرون بقلق أكبر إذا أُخفِيَت الحقيقة عنهم"، موضحةً أنّه "يجب على الأهل أن يكونوا صادقين معهم بطريقة تتناسب مع عمره، ويشرحوا لهم ببساطة أنّ الصوت الذي يسمعونه هو طائرة، من دون الخوض في تفاصيل الحرب".
في وطنٍ أنهكته الأزمات، أصبح الصمود أسلوب حياة، والخوف جزءًا من الروتين اليومي، نتعلّم التكيّف معه بدل الهروب، ونستمرّ..