ممّا لا شكّ فيه أنّ إيران “حفظت ماء وجهها” في الضربة الأخيرة على القاعدة الأميركية في قطر، إلا أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يرضَ إلا أن يُعكّر حتى مياه وجهها بإعلانه “الإنذار المُسبق” للضربة الإيرانية المُنسّقة معه مسبقًا ممّ منع وقوع إصابات في قاعدته.
وهنا لا بدّ من طرح سؤالًا بديهيًّا، لم اختارت ايران قاعدة “العديد” في قطر من بين عدة قواعد عسكرية “علنية” تمتلكها الولايات المتحدة الأميركية في الشرق الأوسط، غير القواعد العسكرية “غير المُعلنة” والتي تكلّمت عنها عدة تقارير استقصائية؟
هل اختار النظام الإيراني “قطر” الدولة التي تستطيع إيران أن “تمون” عليها في الخرق السيادي لأجوائها وأرضها؟ أم لقدرتها على تنسيق “ضربة حفظ ماء الوجه” في طريق العودة الى خطة الرئيس الأميركي للسلام في الشرق الأوسط؟ خاصةً وأن الرئيس ترامب وبعد أن شكر ايران على “الإنذار المُبكر” عاد وأعلن البارحة بأن ايران استأذنته إذا كانت الساعة الواحدة تناسبه لتنفيذ الضربة!
في ظلّ هذه الوقائع، هل يجوز الكلام عن “انتصار ايراني”؟ فالواقع الإستراتيجي يُثبت أنّ النظام الإيراني لم ينتصر، بل ما زال يتخبّط في مسيرة خسارات متتالية تُفكّك تدريجيًا نفوذه الإقليمي.
منذ أن بدأ نظام بشار الأسد، حليفها الأبرز، يفقد شرعيته وسيطرته على معظم الأراضي السورية، حتى سقوطه في الثامن من كانون الأول عام 2024 تراجع النفوذ الإيراني تدريجيًا في الساحة الإقليمية. ثمّ أتت الضربة الأقسى: خسارة حركة “حماس” في غزة، التي لطالما شكّلت إحدى أبرز أذرع طهران في فلسطين.
أما في لبنان، فصورة “حزب الله” تغيّرت جذريًا. من “مقاومة” تحظى بشعبية، إلى ميليشيا متّهمة بتعطيل الدولة، وحماية منظومة الفساد، وربط لبنان بالمحور الإيراني قسرًا، ما جعل الحزب عبئًا داخليًا بدل أن يبقى ورقة قوّة خارجية لطهران، قبل أن يعلن حرب إسنادٍ نقلته من حزبٍ يرفع إصبعه بوجه الدولة اللبنانية ومؤسساتها العسكرية والقضائية إلى حزبٍ يرفع إصبعه ليستأذن الإبقاء على سلاحه أسابيع وبالأكثر أشهر قليلة.
هذه الخسارات الميدانية جعلت إيران تتراجع من الخطوط الأمامية إلى الداخل، فنُقلت الحروب إلى أراضيها: اغتيالات متكرّرة لعلمائها وقادتها، اختراقات أمنية واستخباراتية إسرائيلية دقيقة، وتفكك لبرنامجها النووي. كل هذا، في مقابل تفوّق تكنولوجي هائل لإسرائيل، ودعم ثابت من حليفها الأميركي، من دون أن يتخلى عنها في أصعب اللحظات مقارنةً بما قام به حليف إيران الأشهر كما يحبّ أن يسمّيه “المحور” “أبو علي بوتين” والذي لعب دور الوسيط حتى لا نقل دور المراقب.
بالتالي، ما يحدث اليوم ليس نصرًا إيرانيًا، بل استمرار لانهيار مشروع توسّعي لم تعد له القدرة على التقدّم، بل بالكاد يحاول صاحبه الصمود بعد أن أصبح اليوم يعيش في دوامة تخبّط داخلي وخارجي لم تمرّ بها ايران منذ الإطاحة بالشاه عام 1979 ولم يواجه نقمة شعبية متصاعدة مشابهة للتي يواجهها اليوم خاصةً بعد شعلة الثورة التي أطلقها مقتل مهسا أميني، والتي شملت الرجال والنساء معًا، من مختلف الأعمار والمناطق، في مواجهة نظام فقد شرعيته بالرغم من أنه يحكم بقبضة دينية متشدّدة وأمنية ظالمة.
داخليًا، ينهار الاقتصاد وتُقمع الحريات، وخارجيًا يخسر نفوذه تدريجيًا في سوريا ولبنان وغزة.
ماذا ينتظر النظام الإيراني بعد حرب ال “12 يوم”؟
المزيد من القمع للتعويض عن الصورة الأمنية العسكرية النمطية التي أسقطتها هيبة طائرات الشبح “بي-2” ، مما يعيد الإحتجاجات الى الساحات نفسها التي تجري فيها اليوم الإحتفالات أو التشييعات وبالتالي إنارة شعلة ثورة “جين، جيان، آزادي” من جديد؟
أم سيلجأ النظام الإيراني الى خطوات إستباقية بوجه الدعوات الخارجية والداخلية للإنفصال عن القيادة الدينية وإسقاط النظام، فيفرج عن المعتقلات والمعتقلين السياسيين كنرجس محمدي ورفاقها في مسيرة تحدّي جلدات وإعدامات النظام ؟
التحديات تتراكم، والضربات تتوالى من كل جهة، في ظل عزلة دولية خانقة وشعب ناقم. في ذروة ضعفه وانكشافه، يُطرح السؤال الجوهري: هل يبقى هذا النظام؟ أم أن ساعة التحوّل اقتربت؟ وسيُكتب لإيران أن تعيش التقدم والإزدهار والتطور لا بكيفية تخصيب اليورانيوم بل بكيف يعيش الإنسان بكامل حريته وكرامته الإنسانية بسلام.