بالأمس أعلنت كل من المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية في إيران إستئناف العلاقات الديبلوماسية بينهما برعاية جمهورية الصين الشعبية، التي باشرت منذ العام 2021 وساطتها بين الدولتين للوصول الى استعادة تلك العلاقات.
الخبر بالطبع عند المطبّلين والمزمّرين من جماعة محور الممانعة خرج مع تفسيراتهم خارج السياق خروجاً كلياً باعتبار أن هؤلاء يتجهون على الدوام في تحليلاتهم نحو منطق الغلبة، ويعتبرون أنفسهم أن المحور الذي يمثلونه هو المنتصر على الدوام لتخدير شعوبهم وبيئاتهم الحاضنة.
من هنا لا بد من وضع الحقائق في نصابها وفق الآتي :
أولاً : إن اتفاق الرياض وطهران هو اتفاق لإعادة وصل ما انقطع بين البلدين منذ العام 2016، والعلاقات الديبلوماسية هي بمفهوم القانون الدولي وسيلة تنظيم الخلافات والتعاون بين الدول، وبالتالي فإن إقامة علاقات ديبلوماسية لا يعني رضوخ أو خضوع أي دولة لدولة أخرى، بل استئناف آلية تواصل وفق القنوات الرسمية الديبلوماسية والسياسية بين بلدين ذات سيادة.
ثانياً : مَن يقرأ جيداً وحرفياً وموضوعياً لا بل مَن يحسن قراءة (الأمر الذي بات موضع شك لدى في أيامنا هذه) نص البيان تستوقفه الإشارة الى جملة " … ويتضمن تأكيدهما على احترام سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية … "
فاللافت في ذكر البيان لهذه الجملة أنها جاءت في سياق اتفاق على استئناف علاقات ديبلوماسية بين دولتين ذات سيادة، ما كان يفترض أن يبقى مضمونه محصوراً فقط على ما يهم المصالح المشتركة، ويشير في الأغلب الى احترام كل بلد سيادة البلد الآخر وعدم التدخّل في شؤونه الداخلية …
لكن، وهنا تظهر العبقرية السعودية ولا سيما عبقرية القيادة السعودية الحالية التي تفوت الكثيرين من أصحاب الفكر والقلم، فقد تعمّدت الرياض في البيان انتزاع تعهد إيراني برعاية صينية بعدم التدخّل في شؤون دول المنطقة من خلال " التأكيد على سيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها …"، علماً أن الصين هي الطرف الوحيد الذي يمكنه التأثير على الإيراني لا بل الذي يمكنه إرغام الإيراني على الالتزام لكون طهران محاصرة ومعزولة دولياً وإقليمياً ولا حليف لها الا الصين باعتبار أن الروسي منشغل في حربه في أوكرانيا وفي مواجهته مع الغرب، وبالتالي ألزمت طهران بهذا البند بضمانة صينية، الأمر الذي لن يكون على الإيرانيين سهلاً تخطيه أو تجاوزه أو مخالفته.
ثالثاً : إيران تحتاج لهذا الاتفاق ولعودة العلاقات الديبلوماسية للخروج من العزلة الإقليمية بمساعدة صينية- سعودية، وهي تعاني الأمرّين من أزمة داخلية خانقة ومن أزمة دولية مع سقوط مفاوضات فيينا حول الملف النووي واصطفافها الى جانب موسكو في حربها ضد الغرب، كما أن المملكة بحاجة الى العلاقات مع إيران لمتابعة وإنجاز موضوع تسوية النزاع اليمني الذي يشكل أولوية القيادة السعودية بالدرجة الأولى.
الرياض ليست في وارد تقديم أي ملف بما فيه الملف اللبناني على ملفات الرياض الأساسية والملحّة لاسيما وأن الرياض أفهمت القاصي والداني في لبنان بأنها لن تدخل في لعبة تسمية الأشخاص لرئاسة الجمهورية اللبنانية، وقد حدّدت مواصفات الرئيس التي ترتاح اليه وفي نفس الوقت لا توافق على سيلمان فرنجية رئيساً باعتباره ممثلاً للخط الإيراني الممانع والتابع لحزب الله والذي لا تريده الرياض … ولن تقبل به لا الآن ولا غداً ولا بعد غد الا اذا… ونقول اذا استحالت استراتيجية طهران في المنطقة الى سياسة حسن جوار وأوقفت تدخلاتها الإقليمية في شؤون الدول وأعلنت حل ميليشياتها ومنها حزب الله.
أما ما عدا هذه الحالات فإن الرياض ليست مستعدة أبداً للقبول بمرشح لا تتوفر فيه المواصفات التي أعلنتها، مع الإشارة الى أن المواصفات التي أعلنتها الرياض أكثر من مرة أثناء إنجاز المفاوضات السعودية- الإيرانية حول استئناف العلاقات الثنائية بين البلدين برعاية الصين، وبالتالي إعلان استئناف العلاقات الديبلوماسية بين البلدين لا يعني تراجع الرياض عن تلك المواصفات، علماً أيضاً أن الاتفاق لم يكن مفاجئاً بل وليد سنتين من المساعي الصينية المعروفة والمتابعة إعلامياً، سواء مع زيارة الرئيس الصيني للرياض أو مع زيارة الرئيس الإيراني الى بكين.
رابعاً : مَن يتمعّن في قراءة الوساطة الصينية الناجحة بين الرياض وإيران من الناحية الجيوسياسية يدرك أهمية الدور الطليعي الذي تضطلع به بكين في المنطقة من خلال عودتها القوية في علاقاتها مع الدول العربية ولا سيما الخليجية، وبخاصة السعودية بناءً لبرامج واتفاقيات إستثمارية وتجارية ضخمة جداً ليست بكين مستعدة للتضحية بها بسبب تعنّت إيراني أو تصدير للثورة العقائدية الفكرية لدول المنطقة.
من هنا، تندرج المبادرة الصينية الجديدة من ضمن إحدى تجلّيات الصراع الدولي بين القوى العظمى حول انتهاء الأحادية العالمية للأميركيين وحلفائهم الغربيين، والعودة الى تعددية قطبية من جهة كما تندرج من جهة أخرى من ضمن التعبير السعودي عن إحدى ثوابت سياسات الرياض الخارجية القائمة على اعتماد الخيارات والقرارات التي تخدم مصالحها، وعدم الاصطفاف في صراعات المحاور مع محور ضد الآخر، وهذا التوجه عاد و تجلّى منذ يومين من خلال الزيارة الى روسيا والمواقف التي أطلقها وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في موسكو باتجاه عرض الوساطة لحل النزاع الأوكراني والإيمان بالحلول السلمية للنزاعات والتعاون والحوار .
أمام إيران شهرين يتخللهما شهر رمضان الفضيل لإثبات جدّيتها وحسن نواياها في وقف التدخّل في شؤون دول المنطقة كما جاء في نص البيان المشترك الصيني- السعودي- الإيراني .. فهل تتخلّى طهران عن ميليشياتها في المنطقة بدءاً من حزب الله في لبنان، مع تفضيل إنقاذ نظامها من الهلاك الصيني قبل أي أحد آخر ولو على حساب أذرعها في المنطقة، وبذلك ندخل مرحلة بداية نهاية تلك الأذرع لتجنّب النكول بالتزاماتها أمام راعيها الصيني فيتوقف بذلك التأثير الإيراني في تقرير مصير شعوب العراق واليمن وسوريا ولبنان وغزة أم أن إيران ستنكل بالتزاماتها كما عادتها مفضّلةً الحرس الثوري وأجنحته في المنطقة، وتكون بذلك أمام انكشاف سعودي دولي كامل وأمام غضب صيني محتوم مع ما يمكن أن ينجم عن هذا الغضب من تداعيات على النظام الإيراني نفسه وعلى مصير الميليشيات .
ضربة معلم مغلفة بديبلوماسية اليد الممدودة والحوار والعلاقات الديبلوماسية سدّدتها الرياض … وإن كان من أحد حالياً عليه القلق فهو كل أبواق وأجواق وميليشيات محور الممانعة وليس أحداً آخر …