إنسحاب الروس من خرسون : مناورة أم سيناريو الإعداد للتفاوض ؟

63710025_101

أعلنت القيادة الروسية يوم 9 الشهر الجاري بشكل دراماتيكي أنسحاباً عسكرياً مفاجئاً من غرب مدينة خرسون في أوكرانيا، وقد فاجأ وزير الدفاع الروسي شويغو بإعلان الأنسحاب بناءً على توصية قائد العمليات العسكرية الجديدة في أوكرانيا الجنرال سيرجي سوروفكين المعيّن حديثاً في منصبه من قبل الكرملين.

لا شك أن هذا القرار العسكري بالإنسحاب من خرسون الغربية يضيف الى الانتصارات الأوكرانية منذ شهر أيلول الماضي انتصاراً جديداً ونوعياً على اعتبار أنه الموقع الاستراتيجي والسياسي الهام الذي تحتله المدينة في الخطط العسكرية الروسية وفي حسابات الرئيس فلاديمير بوتين الذي أعلن منذ شهرين ضم خرسون لأراضي الاتحاد الروسي.

الجنرال سوروفيكين صرّح أن هذا القرار بالانسحاب الأُحادي من غرب خرسون لم يكن قراراً سهلاً، موضحاً أن الدفاع عن أمن خرسون بات غير ممكن، مضيفاً وهنا المفارقة، أن القرار من شأنه إنقاذ جنوده والقدرة القتالية للوحدات الروسية، ما فسّره المراقبون بمثابة إعلان عن عجز روسي في الحفاظ على مواقعه القتالية المتقدمة، وحماية المدن التي ضُمت الى روسيا بموجب الاستفتاء الشكلي الذي كان قد نُظم مؤخراً.

هذا القرار بالانسحاب المفاجىء طرح أكثر من علامة استفهام حول المسبّبات والدوافع والنوايا الروسية إزاء خرسون والحرب على جبهات القتال مع الأوكرانيين، في وقت صرّح فيه وزير خارجية أوكرانيا كوليبا أن الحرب مستمرة رغم الانسحاب الروسي، فيما أعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي عودة خرسون الى حضن الوطن.حقيقة نوايا الروس موجودة في عدد محدود من العقول القيادية في موسكو وعلى رأسهم الرئيس الروسي بوتين، وبالتالي من الصعب معرفة الاعتبارات والحسابات التي حدت بالقيادة الروسية الى الانسحاب الدراماتيكي والفجائي من خرسون الغربية، إنما يبقى أنه بالإمكان رسم 3 إحتمالات لهذا الانسحاب وفق الآتي :

- الإحتمال الأول : هو أن يكون الروس فعلاً قد عجزوا عن الدفاع عن أمن غرب خرسون، ما يعني تضاؤل القدرات القتالية الروسية على الجبهات من شرق أوكرانيا الى جنوبها،وبالتالي فضلوا التخلي عن المدينة للتقليل من الخسائر الهائلة التي تكبّدها الروس في حربهم الى الآن منذ شهر شباط الماضي، وقد أكدت مصادر غربية خسارة روسيا الى الآن حوالي 100 ألف جندي بين قتيل وجريح وأسير ما يدل على الحجم الهائل للخسائر الروسية.نقطة تفصيلية لكن هامة تجعلنا نشكّك بهذا الإحتمال وهي أنه لو صحّ أن الانسحاب جاء على خلفية عجز روسي عن متابعة القتال غرب خرسون نتيجة الخسائر الفادحة وعدم القدرة على الاحتفاظ بالمنطقة الغربية لنهر دنيبرو الفاصل لكانت القيادة الروسية اتخذت القرار بالانسحاب من دون إثارة إعلامية واسعة لخبر الانسحاب إخفاءً لهذا العجز العسكري، إذ لا يعقل أن تكون القيادة الروسية قد تقصدت إظهار عجزها وانسحابها علناً من على وسائل الإعلام العالمية كافةً، لتقر بهزيمة وتعترف بسهولة بعدم القدرة على الاستمرار في غرب خرسون.

- الإحتمال الثاني : أن يكون هذا الانسحاب المعلن بهذه الطريقة الدراماتيكية فخاً للأوكرانيين وحلفائهم الغربيين، بحيث تنسحب القوات الروسية من خرسون فيدخلها الأوكرانيين بنشوة الانتصار، ومن ثم تعود القوات الروسية لتنقّض على الأوكرانيين وتحقق نصراً كبيراً عليهم.التقديرات الأوكرانية الرسمية شكّكت بدايةً بالرواية الروسية منذ اللحظة الأولى، معتبرةً أن لا مؤشرات حقيقية حول الانسحاب الروسي الجدي من خرسون، وأن الإعلان عن الانسحاب هو تضليل إعلامي، وكأن المعادلة لدى الأوكرانيين أصحاب الحق باتت التشكيك بأية خطوة روسية تبدو إيجابية من أجل إبقاء الحلفاء على استعداد لمتابعة المساعدات خوفاً في كييف من أن أي خبر إيجابي من الجانب الروسي ينعكس تراخياً غربياً في متابعة دعم ومساعدة كييف عسكرياً ومالياً.وما يؤكد وجهة نظرنا تصريح وزير الخارجية الأوكراني ديميترو كوليبا الذي سارع بعدما انسحب الروس فعلياً من غرب خرسون الى التأكيد على استمرار الحرب، في إشارة أوكرانية واضحة موجهة للحلفاء قبل الخصوم من أن الحرب لم تنتهِ، وبالتالي على الحلفاء بذل المزيد ومتابعة إرسال السلاح والعتاد النوعي.

- الإحتمال الثالث: هو أن يكون الروس قد مهدوا الطريق لإقناع الأوكرانيين بالتفاوض عبر تحقيق انسحاب هام من خرسون، وهنا لا بد من التوقّف عند ملاحظة هامة وهي أن لا مؤشرات على وجود ترابط بين المساعي الأميركية الأخيرة مع الروس رغم النفي الروسي، وما حكي من ضغط أميركي على الرئيس زيلينسكي للقبول بالجلوس الى طاولة المفاوضات، وبين انسحاب الروس من خرسون، لكن ثمة حبل أفكار مترابط يحملنا على الاعتقاد بأمر من إثنين : إما أن الأميركيين نجحوا في إقناع الروس "من تحت الطاولة" على تسهيل تحقيق كييف انتصاراً نوعياً يحملها على الموافقة على مبدأ التفاوض بعدما رفع الرئيس زيلينسكي سقف الشروط، وصولاً الى رفض التفاوض مع بوتين ما دام رئيساً لروسيا، وبذلك يكون الانسحاب من خرسون غمز من قناة واشنطن تسهيلاً لها في إقناع كييف بالجلوس الى طاولة التفاوض، وإما أن الروس يريدون نزع ذرائع من كييف تحملها على رفض التفاوض وذلك من خلال الإيحاء بالانسحاب وتحقيق أوكرانيا انتصارات، محاولةً من موسكو حشر الأوكرانيين وإظهارهم حتى أمام حلفائهم بأنهم ما زالوا لا يقبلون بالحوار مع موسكو رغم انتصاراتهم ورمي كرة السلبية على الجانب الأوكراني.

بالتزامن، ثمة أمر أكيد تدل عليه جميع استطلاعات الرأي في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وهو أن هِمّة الرأي العام الغربي بدأت تخف وكذلك حماسه لمناصرة أوكرانيا رغم قناعتهم التامة في حق أوكرانيا والأوكرانيين بالتحرّر من الاحتلال الروسي لأراضيهم، ورغم تضامن حكومات الغرب وشعوبه ولكن على ما يبدو فإن التعب بدأ يتسلل الى تلك الشعوب مع وصول موسم الشتاء وأزمات الطاقة والتضخم التي تهز اقتصاديات وسياسات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية.كييف ردّت على كل هذا بالإشارة الى أنها ستكمل الحرب حتى التحرير ولو بقيت وحيدة في الميدان، وهي كانتمع التفاوض الى أن أقدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 30 أيلول الماضي على إعلان ضم 4 مقاطعات الى الأراضي الروسية لتصبح تحت السيادة الروسية، وهي جمهوريتي الدونباس وزباروجيا وخرسون التي هي مصدر المياه التي تغذي شبه جزيرة القرم، بما يساوي ضم 15% من أراضي أوكرانيا الى الاتحاد الروسي، وفي 4 تشرين الأول الفائت أصدر الرئيس زيلنسكي القرار بعدم التفاوض مع الجانب الروسي طالما أن الرئيس بوتين موجود، فلم يبقَ إلا احتمال الحرب أكثر من السلم، الأمر الذي بدأ يؤثر سلباً على حلفاء أوكرانيا، بدءاً من الولايات المتحدة الأميركية التي دعمت الأوكرانيين ليكونوا في موقف يسمح لهم بالتفاوض مع الروس من موقع قوة انطلاقاً من حسابات واشنطن من عدم إمكانية تحقيق روسيا ما تصبو اليه، ومن عدم إمكانية الأوكرانيين استعادة كافة الأراضي التي احتلها بوتين اعتباراً من شهر شباط الماضي مع بدء العملية الخاصة كما يصفها بوتين.مما لاشك فيه أن الغرب فوجئ بالعجز الروسي عن السيطرة على كييف مع بداية الغزو الروسي، ومن هناك بدأت حسابات الحلفاء الغربيين ولا سيما الأميركيين تتبدل باتجاه دعم أوكرانيا لتكتسب المزيد من أوراق القوة الميدانية التي تمكنها، عندما تحين الساعة، من الجلوس على طاولة التفاوض من موقع قوة، وقد بلغت آمال الأميركيين حد التفكير بدعم أوكرانيا من أجل هزيمة جيش بوتين كلياً وبالتالي القضاء على نظامه في موسكو.

إلا أن حجم الآمال والتوقعات بدأ يتراجع مع تحقيق الجيش الروسي لأكثر من تقدم على أكثر من جبهة من جبهات القتال، ليعود الروس ويتراجعوا ميدانياً ما أنعش مجدداً الآمال الغربية وبخاصة الأميركية في ضرب بوتين والقضاء على جيشه في أوكرانيا تمهيداً لإسقاطه في موسكو.من هنا تولّدت قناعة غربية لدى حلفاء أوكرانيا بأن الانتصار لكلي الطرفين بالمطلق غير ممكن فأُعيدت الحسابات باتجاه الذهاب الى التفاوض خاصة وأن تكاليف استمرار الحرب باتت غير مقبولة وغير محتملة من كافة دول العالم، الغنية منها أو الفقيرة، مع تفاقم الأزمات ... ومن بين هذه الدول الاتحاد الأوروبي الذي بدأ ينتقد سياسة واشنطن التي تبدو غير مبالية بخسائر وأضرار أوروبا الجسيمة من طول الحرب في أوكرانيا، فأوروبا لا تستطيع تحمّل نتائج حرب مفتوحة لأشهر إضافية.واشنطن ذات الكونغرس الجمهوري غير قابل لمتابعة سياسة بايدن والديمقراطيين بدعم كييف على النمط نفسه الجاري منذ أشهر،من هنا قد يكون انسحاب الروس من خرسون بداية انعطافة جديدة في الحرب باتجاه التفاوض، وقد حطت كافة آليات الدعم الغربي لأوكرانيا رحالها مع انطلاق أول عاصفة ثلجية على قمم الألب ...

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: