منذ وصول المحمَدين (محمد بن زايد في دولة الإمارات ومحمد بن سلمان في المملكة العربية السعودية) الى سدّة الحكم وهناك نهج سياسي واستراتيجي جديد يُتّبع من قبل الرجلين في مواجهة التحديات والملفات الدولية الشائكة،و غالباً ما يكون مكلفاً ويتطلب الكثير من التوضيحات وتدوير بعض الزوايا، خصوصاً مع شركاء وحلفاء اعتادوا على أسلوب التماشي والمسايرة على مدى عقود سابقة.
الرياض إستضافت مؤخراً مسؤولين أمنيين من مختلف أنحاء العالم في اجتماع خُصّص للبحث في الملف الأوكراني، في ما بدى أنه انتقال نوعي للمملكة في تموضعها الدولي الهادف والمنفتح والمستضيف لمؤتمرات واجتماعات تتصدى لإحدى أكبر أزمات الفترة الراهنة منذ سنتين والى الآن.
الدور المحوري الإقليمي والدولي للرياض لا يُعطى بل يُنتزع والقيادة السعودية نجحت الى حد كبير في انتزاع هذا الدور على الرغم من التشوّهات الباطلة التي أُلصقت بالقيادة السعودية الشابة، وبالتحديد الأمير محمد بن سلمان الذي شُنّت عليه حملات وحملات ليس فقط من الخارج الأميركي والغربي والإقليمي، بل ومن بعض الداخل العربي المناوىء والمصطف ضمن محور ما يُسمّى الممانعة بدءاً من اليمن.
هذا الدور السعودي المحوري هو الذي أسسَ لحضور سعودي فاعل على الساحة الدولية، ومثال على هذا الدور عندما طلب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من ولي العهد السعودي في كوبنهاغن استضافة المملكة لاجتماع الرياض حول أوكرانيا نظراً للانفتاح السعودي على الجميع، والذي يسمح للصين بحضور الاجتماع في الرياض بدل إحدى عواصم القرار الأوروبي، وهذا ما حصل وكان لولي العهد محمد بن سلمان دور بارز وفاعل ومؤثر في إقناع الصين بحضور الاجتماع الذي ضمّ ممثلين عن 42 دولة بما فيها الدول غير المنحازة الى أي من طرفي النزاع في أوكرانيا.
نقاط القوة الاستراتيجية والجيو سياسية في منطقة الخليج تتوزع بين كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات : الرياض تملك النفط وتبوأ المركز الأول في التصدير النفطي العالمي، وستملك أيضاً استقطاب السياحة والتجارة العالميتين مع رؤية ولي العهد 2030 ومشروع نيوم 2030، فيما دولة الإمارات تمتلك المركز التجاري المهيمِن في المنطقة والإشعاع الثقافي والاقتصادي والتجاري الدولي.
هذا التميّز المزدوج للبلدين النفطيين الخليجيين يسمح لهما بأن يلعبا دوراً بارزاً ومهماً في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية المستجدّة من خلال ديبلوماسية ذكية ومرنة لا مائعة، ومن خلال القوة الناعمة التي يمثلان أحد أبرز وأهم وجوهها.
الرياض وأبو ظبي اذاً هما في صلب محورية الصراعات والأزمات والمخاطر التي تُحدِق بالمنطقة والعالم ونجاحهما مرتبط بمدى النجاح في استثمار تلك المخاطر ( وليس الاستثمار في المخاطر ) للعب أدوار إيجابية على الساحتَين الإقليمية والدولية للمزيد من الحضور والتأثير والمحورية والفعالية من خلال استخدام موارد القوة والتأثير والتحكّم والحوكمة.
هذا النهج طبعاً دونه صعوبات في معرض سلوك طريقه نحو التحقّق الكامل، وأولى تلك الصعوبات أميركا والغرب لاسيما وأن واشنطن المعتادة منذ عقود على سياسات خليجية مطواعة ومتجاوبة اوتوماتيكياً تجد صعوبة كبيرة في الانسجام مع النمط الجديد لسياسات المحمَدين الخليجيَين بحيث أن معادلة "التحالف الأعمى" استُبدلت بمبدأ "التحالف والشراكة" وفقاً للمصالح المتبادلة.
رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، الذي وصل الى سدّة قيادة الدولة حديثاً، والذي اختبر قيادة بلده منذ أن كان نائباً لرئيس الدولة، سرعان ما بثّ نهجاً جديداً في سياسات دولته الخارجية، متنقلاً من منطق القوة العسكرية والمالية الصرفة الى منطق القوة المحورية دولياً، ليتلاقى في هذا السياق مع جاره وشقيقه الأكبر السعودي حيث الأمير محمد بن سلمان يضع الخطط ويرصد تمويلاً لها سعياً وراء خطط عظيمة لتطوير بلاده، ويريد أن يتم الاعتراف بها كقوة كبرى في مجموعة العشرين اقتصادياً ودبلوماسياً، مع الإشارة الى أن دولة الإمارات ليست من بين العشرين الكبار ولا مانع من أن تصل الى مرتبة يمكن قبولها في تلك العضوية.
من هنا، يدخل البلدَان الشقيقان في تنافس اقتصادي ينعكس أحياناً توترات تبقى مضبوطة بروحية الأخوة والحوار المتبادَل لأن قيادة كلا البلدين تدرك أن أي ضعف من أي منهما سينعكس إضعافاً للآخر ولو بعد حين، من هنا نجد أن العلاقات مع الدول الآسيوية الكبرى قد تطورت وبخاصة مع الصين والهند وبما يتجاوز التبادل حول النفط، ليصل الى تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي والطاقة والخدمات اللوجستية وعلوم الحياة تدعيماً لخطط التنمية المحلية وتنويع الاقتصادات المعتمِدة على النفط.
هذه العلاقات الآسيوية أمّنت للدولتين الخليجيتين كما للمنطقة الخليجية نوعاً من شبكة أمان اقتصادي وسياسي بخروجها عن التبعية العمياء المتوارثة للأميركيين والأوروبيين وانفتاحهما على الصين بالدرجة الأولى، وفي هذا السياق نذكر الشراكات الاستراتيجية الشاملة التي أُبرمت مع الصين، وتعود بنا الذاكرة في هذا الإطار الى زيارة الزعيم الصيني الى المملكة العربية السعودية مؤخراً لحضور سلسلة من القمم العربية في كانون الأول 2022، وما قيل عن حقبة تاريخية جديدة في العلاقات مع بكين خدمةً للمجتمع الدولي، وقد صرّح أحد المسؤولين الصينيين يومها لصحيفة "فايننشال تايمز" أن علاقات بكين مع الخليج "هي نموذج للعالم النامي وللمشاركين في مبادرة طريق الحرير، مؤكداً أن الخليج والصين "يمكنهما المساعدة في بناء نظام متعدّد الطرف أكثر عدالة في الشرق الأوسط يحترم الحقوق السيادية ويقاوم هيمنة بعض القوى"، والمستهدف هنا بالدرجة الأولى الولايات المتحدة الأميركية .
دولة الإمارات من جهتها سعت لتوطين صناديق الاستثمار السيادية التي تدير أكثر من 1.3 تريليون دولار، موقّعة اتفاقيات تجارة حرة مع ست دول بما في ذلك الهند وأندونيسيا في الأشهر الثمانية عشر الماضية.
ونذكر ما قاله رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي خلال زيارته دولة الإمارات العربية المتحدة في شهر تموز الماضي من أن هيئة أبوظبي للاستثمار البالغة قيمتها 850 مليار دولار ستنُشئ وجوداً لها في ولاية غو جارات في "الأشهر القليلة" المقبلة، علماً أن المكتب الخارجي الوحيد للهيئة موجود في هونغ كونغ .
وحالياً نجد أن الدولتين الخليجيتين تسعيان إلى الانضمام إلى مجموعة "البريكس"، وهي الاقتصادات التي تضم الصين والهند والبرازيل وروسيا وجنوب أفريقيا، بحيث أن المستشار الدبلوماسي لرئيس الإمارات أنور قرقاش، قال إن أي دولة تريد أن تكون لها أهمية، وتريد أن يكون لها مقعد على الطاولة…نريد بناء الجسور مع الجميع"،
لكن عضوية المملكة والإمارات في البريكس ستخلق ساحة توتر إضافية بين البلدين الخليجيين والعم سام وتعقّد العلاقة معه أكثر مما هي معقّدة راهناً، وقد ازداد التوتر في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا، وكل التحدي اذا انضمتا للبريكس سيكون في كيفية التوفيق بين مجموعة العشرين والبريكس مصلحياً واقتصادياً، علماً من دون شك أن بعض دول البريكس الحالية موجودة في العشرين لكن لدول الخليج إعتبارات أميركية خاصة مستقاة من تاريخٍ وماضٍ تحالفي وشراكة استراتيجية واقتصادية وسياسية متجذّرة، وهذا ما قد يكون وراء حماسة البيت الأبيض الديمقراطي الحالي في الدفع باتجاه التطبيع بين الرياض وتل أبيب لقطع الطريق أمام تداعيات وتناقضات اعتماد الرياض ومعها دول الخليج على الانفتاح على الشرق، وبخاصة الصين ورداً على اتفاق بكين الذي أتاح للصين الدخول سياسياً الى منطقة محسوبة تاريخياً واستراتيجياً على واشنطن والغرب الحليف.
الرياض وأبو ظبي تريدان لعب دور الوساطة بين روسيا والغرب كما في الملفات الدولية الشائكة كافةً تأكيداً على النهج الجديد لديهما في مقارعة الأزمات.
أكثر من 40 في المئة من ثروة صناديق الاستثمار في أبوظبي منتشرة في الولايات المتحدة، والعديد من الاستثمارات البارزة لصندوق الاستثمارات العامة السعودي البالغة قيمتها 650 مليار دولار، هي في أصول أميركية، بما في ذلك حصص في شركة أوبر وشركة صناعة السيارات الإلكترونية،
واليكم بعض الأرقام :
في عام 2021، تجاوز إجمالي تجارة المملكة العربية السعودية مع الصين البالغ 81.7 مليار دولار لفترة وجيزة تجارة الرياض مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ومنطقة اليورو مجتمعةً، وفقاً لتقرير صادر عن آسيا هاوس ومقره لندن، وأضاف التقرير الذي صدر العام الماضي أنه يتوقّع أن تتبع الإمارات نمطاً مماثلاً، مع تقلّص الفارق بين تجارة دول الخليج مع الصين ومع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة ومنطقة اليورو إلى بضعة مليارات من الدولارات مقارنة بـ 28 مليار دولار في عام 2012.
الدولتان الخليجياين تريدان الانفتاح الاقتصادي على الغرب والشرق في آن، لكن دون ذلك خطر وقوعهما في مرمى الاشتباك الأميركي- الصيني، وهنا كل الصعوبة والتحدي الأكبر للنجاح.