يخطىء مَن يعتقد أن الأحداث الأمنية الأخيرة في الأردن هي حدث منفصل ومنعزل عن مجريات الأمور في المحيط والمنطقة،
فقد كشفت السلطات الأردنية بالأمس عن تفاصيل عملية نفذتها الأجهزة الأمنية للقبض على المشتبه بهم في مقتل العقيد عبدالرزاق الدلابيح، ونعت مقتل 3 من عناصرها الأمنية خلال مداهمة "لخلية إرهابية" في محافظة معان.
وكانت السلطات الأردنية قد أعلنت عن مقتل "أحد الإرهابيين" واعتقال 9 آخرين في الخليّة، من بينهم 4 هم أشقاء "الإرهابي" المقتول، وفقاً للأمن، في حين أسفرت المداهمة الأمنية عن "استشهاد" 3 من رجال الأمن وإصابة 5 آخرين.
وجاء الإعلان عن العملية بعد يوم واحد من تمديد عشائر بني حسن مُهلتَها للأجهزة الأمنية للقبض على القاتل، فيما أصدرت حكومة بشر الخصاونة بياناً أكدت فيه عدم التهاون في إنفاذ القانون وفرض سيادته على كل مَن يحاول الإخلال بالأمن والاعتداء على رجاله، وعلى الممتلكات العامة، وما قالت إنه "استثمار أي ظرف لإحداث الفوضى وترهيب المواطنين" .
وكان المسؤول الأمني الدلابيح قد قُتل فجر الجمعة الماضي في محافظة معان، بعد "انحراف" بعض الإضرابات لسائقي شاحنات رفضاً لارتفاع أسعار المحروقات، إلى أعمال عنف واعتداءات على الممتلكات العامة، وفقاً لتصريحات الحكومة الأردنية.
مجمل هذه الأحداث تحملنا على استخلاص الأمور الآتية :
أولاً : في مقالات عدة سابقة، ذكرنا أن الأردن يبدو بعد لبنان وسوريا واليمن والعراق وغزة "الخاصرة الرخوة" التي يستطيع النظام الإيراني الولوج منها الى الداخل الأردني لتهديد عرش الملك عبدالله الثاني لأن الأردن لطالما وقف، ومن الناحية الجيو سياسية، على مفترق المصالح الإقليمية بين كل من إسرائيل والضفة الغربية وسوريا وايران، ولأن الأردن ليس بلداً نفطياً غنياً، بل يكاد اقتصاده كالاقتصاد اللبناني يُبنى على السياحة والتجارة، ما يجعله بلداً معرّضاً لخضّات مستمرة.
منذ قيام النظام الملكي في الأردن والعشائر متحالفة مع الملك، ما ضمن للعائلة الهاشمية حكماً قوياً تمكّن عبر العقود من توطيد قيادته وتقوية سلطته خاصة بعد أحداث أيلول الأسود أيام الملك حسين بن طلال ضد الفلسطينيين الذين أرادوا في لحظة اندفاعة عقائدية ناصرية قومية عروبية تكريس سلطة ودولة ضمن الدولة، فكان تصدّي العشائر العامل الحاسم الذي مكّن الملك حسين في حينه من استعادة حكمه للأردن وتوطيده.
يشكّل الفلسطينيون في الأردن اليوم حوالي سبعين بالمئة من سكان المملكة، وبالتالي بات الأردن يتأثر بشكل مباشر وخطير بتقلّبات الأوراق الإقليمية وتقاطع المصالح المحيطة به.
ثانياً : انطلاقاً من المعطى أعلاه، الأردن أمام خطرين أساسيين داهمين : الخطر الإسرائيلي مع وصول اليمين الإسرائيلي المتطرّف وسعي رئيس الوزراء الجديد- القديم بنيامين نتانياهو الى تشكيل تحالف حكومي يميني متطرّف، والخطر الإيراني مع ترك الروس الحدود الأردنية - السورية المشتركة متفلّتة للإيرانيين وتحت سيطرتهم، والخطر الفلسطيني نفسه المتأتي من تداعيات الأوضاع لدى السلطة الفلسطينية والمنظمات في غزة.
في ظل هذه الأخطار الجيو استراتيجية، بدأت المؤامرة تستهدف مباشرةً الأردن، وكان أول الغيث منذ أشهر محاولة الانقلاب الفاشلة التي ورّط فيها الأمير حمزة والذي كشفت الأيام حياكتها من قبل إيران عبر الجماعات الإسلامية المتطرّفة وبغطاء حدودي مباشر، بنيّة إسقاط الملك عبد الله الثاني مستغلّين بذلك تردّي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في الأردن، فكان إفشال المؤامرة تلك نذير تأهبٍ أردني حمل الملك عبدالله الثاني أكثر من مرة وعلناً الى الإشارة بالإصبع الى الخطر الإيراني المحدِق ببلاده.
ومن هنا دخل الأردن في دوامة التهديد والأخطار …
ثالثاً : إيران في وضع خطير داخلياً وخارجياً، وككل مرة تكون طهران ونظام الملالي تحديداً في وضع محاصَر يلجأ هذا النظام بلا هوادة الى تصعيد أوضاعه خارج حدوده وآخر مثال قصف طهران لإقليم كردستان بحجة مقاتلة متطرّفين إرهابيين أو تفجير مبنى تجاري صيني في كابول منذ أيام رداً على البيان السعودي- الصيني الذي تضمن رسائل حاسمة تجاه الجمهورية الإسلامية، ما يزيد من خطورة الدور الإيراني في إشعال أكثر من محور من محاور المنطقة واستخدام أوراق الضغط التي يملكها النظام في إيران لمحاولة حرف الأنظار عن تصاعد الاحتجاجات الداخلية وخلخلة أسس النظام التيوقراطي الذي بُني منذ الثورة الخمينية في العام 1979.
ايران هذه، والتي تورّطت ضد الأميركيين والغرب وبخاصة الأوروبيين الذين كانوا أشد المتحمّسين للانفتاح عليها وحمل واشنطن على توقيع اتفاق نووي جديد معها، من خلال اصطفافها الى جانب الرئيس فلاديمير بوتين في حربه ضد أوكرانيا وأوروبا والغرب، والتي وصل تورّطها الى حد بيع موسكو المسيّرات التي تقصف وتدمر البنى التحتية في أوكرانيا حالياً، إيران تلك هي نفسها التي لا ترى ما تخسره بعد انسداد أفق المفاوضات في فيينا، وبعد انسداد أفق الانفتاح على دول الخليج وبخاصة على المملكة العربية السعودية، وبعد الانعطاف الصيني من الرياض ضد نهجها الإقليمي، وبالتالي تعود الى محاولاتها السابقة بتصدير الثورة الى خارج حدودها وإلهاب أوراقها في المنطقة للضغط وهي المتحسّسة بخطورة الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرّفة التي يتم تركيبها، والتي تضع نُصب عينيها ترسانتها النووية وسلاحها الى ميليشياتها في المنطقة وفي طليعتها حزب الله انطلاقاً من الأراضي السورية.
الأردن هدف مميز لإيران نظراً لموقع المملكة الاستراتيجي بين إسرائيل ولبنان وسوريا والعراق وصولاً الى السعودية والامتداد الخليجي، من هنا يبدو الأردن مجدداً في مهب صراع إقليمي جديد في ظل تحشيد ميليشياوي إيراني في كلٍ من سوريا والعراق ولبنان ( حادثة مقتل عنصر من اليونيفيل وإصابة آخرين بإطلاق نار في جنوب لبنان منذ أيام هي من مؤشرات التصعيد الإيراني عبر حزب الله )، وفي ظل انقسام أردني- فلسطيني داخلي كان الضابط الأردني الدلابيح ضحيته.
الوضع السياسي المحيط بالأردن نتيجة المعطيات أعلاه يعني فيما يعنيه أمرين أساسيين : توقّع اجتياح إسرائيلي لأراضي الضفّة وبالتالي سقوط نهائي لحلم الدولتين، والأمر الثاني ضم الفلسطينين الى الأردن نتيجة انتهاء مشروع الدولة الفلسطينية فتتحقّق بذلك فكرة إيلاء العرش الهاشمي الأردني سلطة إدارة الأراضي المقدسة في القدس الشرقية مقابل إدارة إسرائيل لشؤون الضفة، فيما تُولّى مصر إدارة شؤون غزة وضمان عدم تعرّض إسرائيل للفلسطينيين والفلسطينيين للإسرائيليين .
إيران مستعدة لإشعال الحرب في الأردن لتتمكّن من خلالها من إعادة تحشيد وتجييش وأدلجة المتطرّفين الإسلاميين السنّة والشيعة بفكرة الاقتراب من إسرائيل لإبادتها عبر الأراضي الأردنية التي يحكمها نظام موالٍ للغرب وتكفيري كما يعتقد الإسلاميون المتطرّفون في أدبياتهم .
هكذا تشعل إيران الاضطرابات في الأردن وتهدّد أمن المملكة العربية السعودية والخليج عبر العناصر التكفيرية، وبهذه الفوضى يهتز أمن العراق وسوريا ولبنان تهديداً للعمق السعودي- الخليجي ويلتحق الأردن بالدول العربية المحتلة من إيران وميليشياتها.
هذا هو الخطر الاستراتيجي على الأردن الذي يردّد ملكها أن أمن بلده القومي مهدّد من طهران وميليشياتها.
دول مجلس التعاون الخليجي المستشعرة خطورة ما يُحاك ضد الأردن، ومن خلاله الأمن القومي الإقليمي- العربي- الخليجي، أصدر بياناً داعماً لأمن الأردن وللملك الأردني.
المنطقة بالتالي عبر الأردن مقبل على مواجهة حامية وشرسة ستهدّد الأمن القومي الإقليمي برمّته، وسيتحوّل الى جزء من صراع إقليمي دولي انطلاقاً من الأحداث المتوقّعة بين الأردن وإسرائيل والبادية المشتركة بين الأردن والسعودية والعراق .
والأردن في مهب الأزمة وفي صلب المواجهة وتداعياتها، وبخاصة تداعيات سقوط مشروع الدولتين، ما سيؤدي الى تحويل أمن الأردن الى حالة عدم استقرار وانقسام فلسطيني- اردني قد يحدو بالملك عبد الله الثاني الى إعادة استخدام الدبابات في وجه المتطرّفين الإسلاميين وحتى الفلسطينيين الثائرين بدعم إيراني، ما سيستدعي بالتأكيد تدخلاً إسرائيلياً ومعه عربي خليجي دولي لا تحمد عقباه، خاصة اذا ما طلبت إيران الملالي التدخّل الروسي أو الدعم الروسي في مواجهة حلفاء الغرب في المنطقة الى أن يسقط نظام طهران بالضربة القاضية.