دخل الحبر الأعظم قداسة البابا فرنسيس بقوة وفاعلية على ملف المهاجرين من أفريقيا الى أوروبا الى حد أنه خصّص يومين لزيارة مارسيليا، ثاني أكبر مدن فرنسا " لا فرنسا "كدولة، كون مارسيليا أكبر مدينة ومحطة للمهاجرين غير الشرعيين من شمال ووسط أفريقيا.
جدل كبير في فرنسا حول زيارة البابا الى مرسيليا
زيارة البابا لمارسيليا وإعلانه حصرية زيارته بتلك المدينة لا لدولة فرنسا أثارا جدلاً كبيراً في فرنسا، ما حمل مصدر كنسي رفيع الى التوضيح بأن زيارة البابا إنما تم التخطيط لها لتمكين الحبر الأعظم من إيصال رسالة الى الأنظمة الأوروبية كافة، وبخاصة الفرنسية والإيطالية والمعنية باستقبال المهاجرين بضرورة الرأفة مع هؤلاء واستقبالهم وتأمين اندماجهم في المجتمعات التي يقصدونها بحثاً عن مستقبل أو هرباً من اضطهاد، غامزاً من قناة السلطات الفرنسية والإيطالية اللتين، وعلى إثر أحداث جزيرة لامبدوسا الأخيرة منذ أيام بصورة عشوائية ومفاجئة نتيجة وصول الآف من المهاجرين غير الشرعيين آتين من دولهم الأفريقية، ما تسبّب في صدامات ورفض الدولتين استقبالهم ونشوب أزمة داخلية أوروبية إثر ذلك.
الهجرة ملف شائك يؤرق الحكومات الأوروبية
طبعاً نظرة البابا فرنسيس كرأس للكنيسة وممثل لسلطة الله على الأرض بالنسبة للكاثوليك في العالم وفي أوروبا تحديداً لها تأثيراتها المباشرة على رسم السياسات الحكومية للتصدّي لملف شائك وخطير يؤرق الحكومات الأوروبية منذ سنوات كملف الهجرة المستفحلة الى شواطئ أوروبا، وهي نظرة مبنية بطبيعة الحال على تعاليم الكنيسة والسيد المسيح والأناجيل حول الأخوة والتضامن والرأفة والمعاملة الإنسانية وعدم إقفال الأبواب أمام أي محتاج أو فقير أو طالب لجوء انطلاقاً من الحق الالهي الإنساني بكافة مبادئه وقيمه وأسسه، إلا أن الإشكالية تبقى بالنسبة للحكومات الأوروبية وتحديداً الفرنسية والإيطالية الأكثر استهدافاً من ظاهرة الهجرة غير الشرعية في مدى قدرة الدول على استيعاب الموجات المضاعفة من المهاجرين في قارة ودول تعاني أوضاعاً اقتصادية ومعيشية صعبة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا وتداعيات تلك الحرب وتحديات الطاقة والتنمية المستدامة وسواها من هموم مشتركة، ما أثقل كاهل الحكومات على الصعد كافة وجعلها بالكاد تستطيع تأمين الأمن والاستقرار الاجتماعيين والاقتصاديين لشعوبها، فكيف باستيعاب المزيد من القوى البشرية؟
المسؤولية يجب أن تكون مشتركة
لا يُخفى أن بإمكان أوروبا وبخاصة فرنسا وإيطاليا الاستفادة من العديد من الطاقات المهاجرة اليهما وتوظيفهما بما يعود بالنفع لدولهما وشعوبهما إلا أن كلاً من باريس وروما تعتقدان أن المسؤولية يجب أن تكون أوروبية مشتركة وليست حكراً على الدولتين المواجهتين لتلك الظاهرة.
من هنا الاختلاف الحاصل في النظرة بين قداسة الحبر الأعظم والحكومات الأوروبية وفي طليعتها الفرنسية والإيطالية، وأهمية اللقائين الذين جمعا قداسة البابا بالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على هامش زيارته لمارسيليا حيث تناقشا مطولاً بالملف المطروح، ولم يُعرف ما اذا كان الرئيس الفرنسي قد وعد البابا باتباع بعضٍ من نصائحه، علماً أن فرنسا قاب قوسين أو أدنى من إقرار قانون للهجرة يوصف بالمتشدّد حيال الهجرة غير الشرعية من المتوقع إقراره في الجمعية الوطنية الفرنسية خلال فترة قريبة.
لا لتحوّل البحر المتوسط الى مقبرة للإنسانية
البابا لا يريد أن يتحوّل البحر المتوسط الى مقبرة للإنسان والإنسانية كما يعتبرها حالياً خصوصاً مع تكرار مآسي مقتل مهاجرين تبتلعهم أمواج البحر وتتسبّب بمأساة إنسانية واجتماعية هائلة الوقع.
قضية المهاجرين ومأساة هؤلاء الذين يموتون في المتوسط أثناء محاولتهم الوصول الى أوروبا في صلب اهتمام قداسته ومبرّر تلك الزيارة الأساسية التي قام بها يومي الجمعة والسبت الى مرسيليا، التي هي أول مدينة لجوء في المتوسط، فضلاً عن كونها تحتضن عشرات الآلاف من المهاجرين المنتظمين في مجتمعاتهم في تلك المدينة والذين نجحوا بشكل أو بآخر في الاندماج في المجتمع المحلي والفرنسي الأوسع.
لمستقبل مبني على الأخوة
قداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس كان قد اعتبر الأحد الفائت وبعد صلاة التبشير في الفاتيكان أن الهجرة التي احتلت صدارة المشهد في إيطاليا في الأيام الماضية مع وصول آلاف الأشخاص الذين انطلقوا من سواحل شمال أفريقيا الى جزيرة لامبيدوسا، تمثل "تحدياً غير سهل"، مشيراً في هذا السياق الى أنه ينبغي مواجهته معاً لكونه أساسياً من أجل مستقبل الجميع الذي سيكون مزدهراً فقط إذا بُني على الأخوّة، وبوضع الكرامة البشرية والأشخاص لاسيما الأشد عوزاً في المقام الأول على حد قوله.
ماكرون الرئيس العلماني لا الكاثوليكي
هذا ويُسجّل أن هذه الزيارة أثارت حتى قبل بدئها جدلاً بشأن حضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون القداس الذي أحياه البابا البالغ من العمر 86 عاماً أمام 62 ألف شخص السبت في ملعب فلدروم الرياضي في هذه المدينة التي تشهد تدفقاً للمهاجرين حيث اتهمت المعارضة اليسارية ماكرون بـ “الدوس" على مبدأ حياد الدولة الديني في بلد علماني، فيما أوضح الرئيس الفرنسي أنه يعتبر بأنه ذاهب الى مكانه ليس ككاثوليكي، بل كرئيس للجمهورية العلمانية، مضيفاً أنه شخصياً لن يقوم بأي ممارسة دينية خلال هذا القداس.
من جهة أخرى، اتهم بعض نواب اليسار الرئيس ماكرون بإرجائه تقديم مشروع قانون حول الموت الرحيم المعروف أنه يشكل خطاً أحمر للكنيسة الكاثوليكية لكي لا تتأثر الزيارة بهذا الموضوع.
البابا ذهب الى مرسيليا لا فرنسا
قداسة البابا من جهته ومن خلفيته الفكرية وهو من أبناء الهجرة، وأهله كانوا مهاجرين وقد عاش في أوساط الشعوب الفقيرة ولذلك نجده مهتماً بالضواحي أكثر من الدول الكبرى، ولذا كانت إشارته الى أن زيارته ليس لها طابع "زيارة دولة" حيث كان قد صرح أنه ذاهب الى مرسيليا لكن ليس الى فرنسا.
ومع إتمام تلك الزيارة التي وصفت بالتاريخية ولقائه مع أساقفة وكهنة من كل حوض المتوسط بمناسبة "اللقاءات المتوسطية" التي تُنظم في مرسيليا من 18 الى 24 أيلول الجاري، يمكن الجزم أن قداسة الحبر الأعظم حقق أهداف زيارته إن على الصعيد السياسي أو على الصعيد الروحي، حيث أيقظ الكاثوليكية النائمة والمتخاذلة في فرنسا، وتجلّى ذلك في الحشد الشعبي غير المسبوق أثناء قداسه في ملعب فيلو دروم في مارسيليا الذي تحوّل الى أكبر كاتدرائية في ساعات، ما أذهل وسائل الإعلام المحلية والأجنبية كافة المهتمة بتغطية هذا الحدث وهذه الزيارة.
وكان قداسته قد وصل بعد ظهر الجمعة إلى مرسيليا وتوجه على الفور إلى كاتدرائية نوتردام دو لا غارد، وهي نصب رمزي مطل على المدينة للصلاة مع رجال الدين تلتها لحظة تأمل مع ممثلي أديان أخرى أمام النصب المخصص للبحارة والمهاجرين المفقودين في البحر، فيما يوم السبت شارك صباحاً في الجلسة الختامية ل"لقاءات المتوسط" في قصر فارو حيث عقد اجتماعاً مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وأحيا بعد الظهر الحدث الأبرز في الزيارة مع قداس عام في ملعب فيلو دروم، بعد رحلة في "بابا موبيل" من الجادة الرئيسية في برادو لكي تتمكن الحشود من تحيته.
اختلاف مع الحبر الأعظم على الترحيب بالمهاجرين
يُذكر أن بعض الكاثوليك الفرنسيين يؤيد فرض قيود على استقبال مهاجرين حيث يختلفون مع الحبر الأعظم في الترحيب بكل المهاجرين استناداً الى أن ليس بمقدور فرنسا استقبال كل بؤس العالم.
وللتذكير، تضم مرسيليا أحياء تعدّ بين الأفقر في أوروبا وبعضها يشهد عمليات إتجار بالمخدّرات. وقد أوقعت أعمال العنف المرتبطة بتهريب المخدّرات فيها نحو أربعين قتيلاً هذه السنة، بحسب حصيلة أعدتها وكالة فرانس برس.
مهما يكن من أمر، فإن زيارة البابا لمرسيليا حققت أهدافها البابوية وأطلقت صرخة مدوية للحكومات العلمانية في أوروبا بوجوب الأخذ بالاعتبار الاعتبارات الإنسانية عند التصدّي والتشريع في مجال المهاجرين، فضلاً عن إيقاظ الروح الكاثوليكية المؤمنة في فرنسا والتي من خلالها تعود الروح الى الكنيسة الجامعة في فرنسا وأوروبا في وجه كل محاولات محو تاريخ تلك القارة المسيحي .