بعد فترة القطيعة والغضب الأميركي من المملكة العربية السعودية إثر قرار "أوبيك بلاس" الأخير العام الماضي بخفض إنتاج النفط مليوني برميل، وثبوت عدم تأثير هذا القرار بالشكل الدراماتيكي الذي اعتقده الأميركيون بحيث أن الأسعار انخفضت رغم خفض الإنتاج، برزت في الأيام القليلة الماضية مؤشرات تشي بقرب عودة "الكباش النفطي" بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية والغرب، ما قد يعيد التركيز الأميركي الضاغط على موقف المملكة العربية السعودية ودول أوبيك إزاء قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأخير خفض إنتاج النفط الروسي الى 500 ألف برميل.
في الوقائع، وبعد القرار الأميركي الأوروبي بتحديد سقف سعر برميل النفط الروسي ب60 دولار ومشتقات النفط الروسي ب100 دولار، قرّرت موسكو مؤخراً الردّ على الخطوة الغربية بقرار تخفيض انتاجها 5% أو ما يعادل 500 ألف برميل يومياً اعتبارا من شهر آذار المقبل، رغم أن روسيا حالياً في حالة حرب ولا تملك الرفاهية اللازمة لتخفيض إنتاجها كونها بحاجة الى بيع المزيد من النفط لتمويل حربها.
صحيفتا "فايننشال تايمز ونيو يروك تايمز" من جهتهما أوجدا تفسيرات للقرار الروسي المفاجئ وقوامه أمرين :
الأول عدم رغبة روسيا في انتظار تأثيرات السقف البَيعي الغربي لبرميلها على إيراداتها بحيث قرّرت موسكو، تطويقاً للخطوة الغربية، استعادة المبادرة بتخفيضها الإنتاج تلقائياً من نفسها كي لا تأتي اللحظة التي تصبح فيها مجبرة بحكم العقوبات الغربية على التخفيض.
والثاني اعتبار فايننشال تايمز أن الخطوة الروسية تثبت تحوّل النفط الى سلاح بيد موسكو ضد الغرب لأن مبيعات النفط الروسي لأوروبا لم تعد كما في السابق وقد أصبح النفط الروسي موجهاً أكثر نحو دول آسيا وفي ظل انخفاض أسعار النفط راهناً، فهي بالتالي بحاجة لرفع أسعار النفط وهو السبيل الوحيد لتأمين استمرارية دخول إيرادات لتتمكن من الاستمرار في الحرب في أوكرانيا حتى ولو اضطر ذلك موسكو الى منح حسومات خاصة على الأسعار لدول شارية جديدة.
موقع "بلومبرغ" ومعه وكالة رويترز من جهتهما، يتوقعان وصول سعر برميل النفط الى 100 دولار في النصف الثاني من العام 2023 بالنظر لزيادة الطلب الصيني على النفط أكثر من قبل مع عودة الصناعات الصينية الى مستويات إنتاج مرتفعة، ومن هنا حاجة موسكو الى تخفيض سعر برميلها لتعود عند ورود الطلب الى رفع السعر محتفظاً بهامش ربحي كافٍ يمكّنها من تحقيق أرباح، وبالتالي من استمرار التمويل لحربها في أوكرانيا.
آثار القرار الروسي بدأت مفاعيله تظهر في أسواق أسعار النفط العالمية منذ الساعات القليلة الماضية، حيث قفز سعر البرميل الى 86 دولاراً بعدما كان قد توقف عند سعر 83 دولاراً ما أدى الى إحياء المخاوف لدى الأميركيين والأوروبيين من مغبة نجاح روسيا في تخطّي السقف الموضوع لبرميلها لا سيما وأن روسيا نجحت الى الآن في بيع كل منتوجها من النفط لآسيا بدل أوروبا.
هذه الزيادات التي بدأت مؤشراتها منذ ساعات تضرّ بمصالح الأميركيين والأوروبيين والاقتصاد العالمي، والأهم أنها تشكل نكسةً لواشنطن التي كانت وعدت حلفاءها الغربيين وبخاصة الأوروبيين بأن تحديد السقف الأقصى للبرميل الروسي ب60 دولاراً لن يمكّن موسكو من تخطّي هذا السعر، ما سيمنعها من الحصول على الإيرادات للاستمرار في تمويل حربها في أوكرانيا وسيضرب الإقتصاد الروسي ضربة قاسمة.
الخشية هنا تكمن في أن يؤدي الخرق النفطي الروسي الى تفلّت بعض الدول الأوروبية من الإجماع الذي بناه الأميركيون حين أقنعوهم بتحديد سقف للبرميل الروسي بحيث تبادر بعض الدول الأوروبية الى التحرّر من السقف الموضوع بحثاً عن تأمين حاجاتها من النفط وفق الأسعار السوقية، فتشتري بذلك النفط الروسي رغم تعهد جميع الدول الأوروبية بعدم شرائه، وبالتالي حدوث إنشقاق أوروبي حول المسألة.
وهنا تعود الورقة السعودية على طاولة البيت الأبيض كأفضل خيار لمواجهة الخطوة الروسية وتجنّب وصول البرميل الى 100 $، خاصةً وأن ليس بمقدور الأميركيين زيادة إنتاج النفط من عندهم في ظل قوانين منع التنقيب على الأراضي الأميركية والحفاظ على البيئة، والتي وضعتها إدارة الرئيس جو بايدن،
وبالتالي يبقى أمام واشنطن اللجوء الى المملكة العربية السعودية وأوبيك، ما سيُعتبر تراجعاً دراماتيكياً من إدارة بايدن تجاه المملكة والتي كانت توّعدتها بعقوبات وعظائم الأمور إثر قرار أوبيك بلاس العام الماضي بتخفيض الإنتاج.
الرياض ألمحت في أكثر من مناسبة ومحطة الى وقوفها على الحياد في الصراع الروسي- الأميركي- الغربي حول أوكرانيا والمعركة النفطية، وتجلّى الموقف الحيادي هذا في قرار زيادة الإنتاج في شهر شباط حيث أفادت مصادر أن اللجنة الوزارية لأوبيك بلاس التي اجتمعت مؤخراً أوصت بإبقاء اتفاق خفض الإنتاج الحالي كما هو حتى نهاية العام 2023 .
رويترز نقلت عن مصادر موثوقة بأن روسيا وقبل اتخاذها قرار خفض إنتاجها تشاورت مع بعض دول أوبيك،ومن الطبيعي أن تكون المملكة العربية السعودية من بين هذه الدول، ما يعني علم الرياض المسبق بالخطوة الروسية.
واشنطن اذاً ستعود للضغط على السعوديين ليس لتخفيض الإنتاج بل لزيادته كاختبار ثانٍ لمدى تجاوب الرياض مع طلبات حليفتها الخليجية الأولى في ظل قرار حاسم بعد تخفيض أو زيادة الإنتاج طوال العام الحالي.
أما "واشنطن بوست" فإعتبرت أن الأمل بتعاون الرياض مع أي طلب أميركي حالي بزيادة الإنتاج معدوم لاعتبار سياسي أساسي ألا وهو أن الرياض داعمة لحملة الرئيس السابق دونالد ترامب الذي أعلن ترشحه مجدداً لانتخابات 2024 الرئاسية، وقد اعتبرت الصحيفة أن الرياض هي وراء ترشيح ترامب.
والمعلوم أن عودة ترامب الى البيت الأبيض تعني أمرين أساسيين :
ضرب إيران هذه المرة وقد يكون ترامب أعنف من بايدن في الملف إيراني وإنهاء حرب أوكرانيا، وقد صرّح ترامب أثناء خطاب ترشحه أنه قادر على إنهاء الحرب هناك خلال 24 ساعة.
اذاً يجب أن نتوقّع في الأيام والأسابيع المقبلة عودةً للتركيز الأميركي على المملكة للضغط عليها باتجاه زيادة الإنتاج لأنه كلما زاد سعر البرميل كلما اشتد الضغط على الرياض في الإعلام الأميركي والمواقف السياسية للديمقراطيين التي قد تصل الى ممارسة بعض الضغوط العسكرية على الرياض الى جانب ضغوط إقتصادية،
فالمملكة هي بيضة قبّان دائمة في الصراع الجيو سياسي الإقليمي والدولي خاصة في ظل المعادلات الراهنة المتشابكة على المسرحَين الإقليمي والدولي.