بين الهجوم الإيراني على أكراد العراق وهجوم الأتراك على أكراد سوريا، علاقة استراتيجية وجيو سياسية واضحة لا تُفسّر إلا من منطلق معادلة امتلاك الورقة الكردية فعلياً على الأرض لتحسين شروط التفاوض أو المقايضة عليها.
الرئيس التركي رجب طيب اردوغان لا ينفّذ عملياته شمال سوريا لنفس أسباب تنفيذ المرشد علي خامنئي لعملياته شمال العراق في إقليم كردستان، فأسباب الأول هي أمن قومي وحماية حدود تركيا من هجمات كردية تندرج في سياق الصراع التركي - الكردي الطويل وتصاعد تهديدات الأكراد لتركيا مع تعاظم دور الأكراد في تحالفاتهم مع الولايات المتحدة والتحالف الدولي في مكافحة داعش وأخواتها.
أما أسباب الثاني فتعود لذعر القيادة الإيرانية من الدور الكبير الذي يستطيع الأكراد لعبه في حال تحالفهم مع الإتنيات الآذرية والبلوشية والعربية ضد نظام الملالي، لأن الأكراد وحدهم مسلحين ومنظّمَين ولديهم إقليم مؤثر جيو سياسياً وداخلياً على الواقع الإيراني الداخلي المستعر بثورة لا تهدأ ولا تنطفىء، من هنا فإن المواجهة الى تصعيدٍ في الشقين التركي والإيراني فيما الأهداف مختلفة.
في نظرة سريعة الى ما وراء المشهد شمال سوريا، نلاحظ أن تنظيم الدولة لم يعد يمتلك أي سيطرة جغرافية على الأرض في سوريا، فيما قوات سوريا الديمقراطية ذات الغالبية الكردية هي المسيطرة على أجزاء واسعة من شمال شرق سوريا، وهي التي لا تزال تهدّد بأن أي عمل عسكري تركي ضدها سوف يقوّض الحرب على التنظيم ويُفسح له المجال بالعودة إلى المشهد السوري.
ومع إصرار أنقرة على شنّ هجومها البري على مناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" في شمال وشرق سوريا، بعد تفجير إسطنبول، فإن قائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي أعلن الأربعاء الماضي وقف العمليات العسكرية ضد تنظيم الدولة بسبب الهجمات التركية، مؤكداً أن التنسيق مع قوات التحالف بشأن محاربة التنظيم قد تم تعليقه، للانشغال بجبهات المواجهة المحتملة مع تركيا.
الغرب خاضع اذاً لنوع من الابتزاز الكردي، وهو الذي لطالما اعتبر قوات سوريا الديمقراطية حليفاً ستراتيجياً للولايات المتحدة، قائدة التحالف الدولي الذي يحارب التنظيم في سوريا، فضلاً عن قواعده العسكرية المنتشرة في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، حيث تعوّل الأخيرة على هذه المسألة في منع الهجوم بممارسة ضغوطٍ أميركية على تركيا.
الأكيد أن لقوات سوريا الديمقراطية مصلحة حقيقية في محاربة تنظيم الدولة في سوريا، لكن لها أيضاً مصلحة أكبر في إبقاء التنظيم على "قيد الحياة" لتبرير استمرار دعمها من التحالف الأميركي- الغربي.
والمعلوم أن باحتجازها مئات المواطنين الغربيين كسجناء، تعمل قوات سوريا الديمقراطية على استخدامهم لابتزاز الغرب، ولذا فإن السياسة الأميركية الخاطئة في سوريا ساهمت في استمرار استخدام ورقة الضغط هذه حتى اللحظة، فإما أن تقف واشنطن ومعها الغرب الى جانب الأكراد وقفة رجل واحد ومواجهة أي تهديد تركي للوجود الكردي، وإما سحب الغطاء عن قوات سوريا الديمقراطية، إذ في كل الأحوال تبقى مسألة القضاء على تنظيم الدولة بيد الولايات المتحدة وحدها بسياستها وانضمامها إلى تركيا والمعارضة السورية الشرعية، من خلال إعادة الأرض إلى العرب السنّة والقبائل المحلية في المنطقة.
والجدير ذكره أنه، وفي حال تخلي قوات سوريا الديمقراطية عن محاربة تنظيم الدولة في سوريا، فإن الجهات الدولية ستكون بحاجة إلى قوى بديلة عنها في المنطقة، وهذا البديل غير متوفر حالياً، فقوات سوريا الديمقراطية لم تُخلَق الا لمواجهة تنظيم الدولة كونها الوحيدة القادرة على ضبط الأمور في شمال شرق سوريا، وقد أثبتت قدرتها على محاربة الإرهاب والتأسيس لحكومة محلية ذاتية تتولى إدارة شؤون الناس وفرض النظام، ولذا فإن أي فراغ تخلفه قوات سوريا الديمقراطية سيكون من الصعب على الغرب ملؤه، ما قد يشجّع الفصائل الإرهابية أو قوى مدعومة من أطراف دولية متناقضة في مصالحها على ملء الفراغ، الأمر الذي يوقع المنطقة في حالة من الفوضى والاضطرابات.
والمعلوم أنه، ومنذ أكثر من 3 سنوات، تم الإعلان عن القضاء على تنظيم الدولة في سوريا، بعد أن لاحقت قوى التحالف الدولي مع قوات سوريا الديمقراطية آخر جيوبه في الباغوز في ريف دير الزور شرقي سوريا، لتستمر خلايا التنظيم في ما بعد بتنفيذ هجمات عسكرية لم تتوقف حتى الآن ضد أهداف للنظام وقوات سوريا الديمقراطية في شرق سوريا على وجه الخصوص.
وبحسب أحدث التقارير الاستخباراتية الأميركية فإن خلايا التنظيم لا تزال تنشط في المنطقة وتنفذ عمليات عسكرية ضد القوات الموجودة على الأرض، بما فيها الهجمات المتكرّرة على الجيش السوري والفصائل المدعومة من إيران وروسيا في غرب الفرات، مؤكداً أن ما يثبت خطورة التنظيم الهجوم الذي نفذه بداية العام على سجن الحسكة، والذي يُعتبر معركة تميّزت بالتخطيط ودقة التنفيذ، ناهيك عن العمليات التفصيلية التي تستهدف بين الفينة والأخرى مواقع التحالف الدولي وقواعد أميركية.
الأكراد حالياً، ومن خلال شبكة تحالفاتهم، يحاولون بناء شبكة أمان للوجود الكردي في شمال سوريا كي تكون المنطقة الكردية مستعدة للالتحاق بنظيرتها في شمال العراق عندما تحين التسوية الإقليمية أملاً منهم بإنشاء نواة دولتهم التي لطالما كانت الهدف والاستراتيجية الأساسية للأكراد منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، ولذا تختزن قوات سوريا الديمقراطية في حربها ضد تنظيم الدولة أكثر من ورقة ضغط للدفع باتجاه الهدف الأسمى المُشار اليه أعلاه، ويبدو أن تلك القوات لديها وسائل أخرى يمكن أن تلجأ إليها لمواجهة التهديد التركي باقتحام مناطق سيطرتها براً، متعلقة بالتحالفات السياسية والعسكرية مع دول روسيا والولايات المتحدة وملفات المخيمات والسجون التي تحتجز فيها عناصر من التنظيم.
ومن الوسائل الفاعلة التي قد تلجأ إليها قوات سوريا الديمقراطية، مسألة آلاف المعتقلين من عناصر التنظيم وذويهم في السجون والمخيمات التي تديرها في شمال شرق سوريا، وحديثها مؤخراً هروب عدد المحتجزين من داخل مخيم الهول من جراء تعرّضه للقصف من الطيران التركي.
انطلاقاً من مجمل هذه الصورة، يمكن القول إن عملية خلط الأوراق في المنطقة قد تدفع بالملف الكردي الى واحد من أمرين : إما التصفية، علماً بأن الغرب لا يتحمّل مثل هذا الثمن الباهظ خاصة في هذه الظروف الدولية المتوترة على خلفية الحرب في أوكرانيا وتخلخل أسس التحالفات الأميركية مع دول الخليج والدول العربية، فلا يمكن لواشنطن فوق كل هذا أن تخاطر بخسارة حليف كردي فاعل لكن متطلب في نظرها، وإما إدخال الملف الكردي ضمن صفقة إقليمية- دولية تقيم دولة كردية معترف بها دولياً على حدود سورية - عراقية معترف بها، وعندها تصبح إيران أكثر فأكثر معرّضة لتداعيات الدولة الكردية القوية على حدودها مع انضمام كردستان الى مشروع الدولة الكردية، في حين يمكن تسوية الملف مع أنقره – أردوغان بضمانات وامتيازات اقتصادية واستراتيجية تجعل الأتراك قابلين بوقف الحرب ضد الأكراد والاعتراف لهم بكيان قانوني دولتي.
بالانتظار شمال سوريا ومعادلة الأكراد- الأتراك - الغرب - إيران على نار التصادم الحامي بانتظار تسوية شاملة ستعيد تشكيل خريطة مناطق التنازع من أوكرانيا الى القوقاز ودول الطوق التركي وصولاً الى باكستان وأفغانستان وإيران.