لطالما كانت منظمة أوبيك (منظمة الدول المصدِّرة للنفط) المرجعية العالمية لإدارة وتنسيق السياسات النفطية عبر القارات والدول على مرّ التاريخ الحديث ومنذ تأسيسها عام ١٩٦٠ وحتى يومنا هذا، وقد تحكّمت هذه المنظمة عند كل مفترق أو صراع دولي بأسعار النفط العالمية، فضلاً عن تحكمها بالقدرات الإنتاجية للنفط واستراتيجيات تخفيض أو رفع الإنتاج.
هذه المنظمة التي واكبت حقبة منتصف العام الماضي وبداية العام الحالي، تعرّضت لهزة كبيرة منذ اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا حيث اختلطت الأجندات السياسية لصراع الجبابرة بأجندات الاقتصاد العالمي ومصالح الدول الذاتية.
غموض العلاقات الأميركية- السعودية
في الوقائع والمعلومات غير الظاهرة على وسائل الإعلام، يمكن تسجيل الآتي :
- أولا : الغموض في العلاقات الأميركية- السعودية في الآونة الأخيرة، ويُلاحظ في هذا السياق أن المملكة العربية السعودية ليست متمسّكة باستمرار تلك المنظمة في ظل توجهها المتزايد نحو تخفيض الإنتاج مرة ثانية في شهر تشرين الثاني المقبل.
ولعل العلاقة الجدلية بين تخفيض الإنتاج والوضع السياسي والانتخابي للبيت الأبيض الديمقراطي أبرز عنوان لحال الغموض في العلاقات الثنائية، وكلنا يذكر كيف شنّت واشنطن حملة تخوين ضد الرياض غداة قرار أوبيك العام الماضي بخفض الإنتاج، والذي اتُخذ بالتنسيق بين الرياض وموسكو آنذاك، بحيث أن
تخفيض أسعار النفط لدى المنظمة يرتدّ بسلبياته على المواطن الأميركي وإدارة الديمقراطيين في لحظة انتخابية دقيقة وفاصلة ونكاد نقول مصيرية، لأن أي تخفيض في الإنتاج سيعني رفع الأسعار الذي سيدفع الشعب الأميركي الى النقمة على البيت الأبيض، لا على أوبيك والسعودية والدول الأعضاء.
حَنق المعسكر الغربي على أوبيك
- ثانياً : الولايات المتحدة كما الأوروبيون والغرب بشكل عام، ومنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا أقله كي لا نعود تاريخياً الى الوراء كثيراً، لا ينظرون بعين الرضى والارتياح لتلك المنظمة وقراراتها وسياساتها وهم لا يريدون لها الريادة والنجاح، لأن تلك المنظمة مبنّية على فكرة احتكار فريق من الدول لمقررات النفط الدولي وسياساته بعيداً عن تأثير المعسكر الغربي ومصالحه.
وما زاد من حَنق هذا المعسكر على المنظمة انفصالها واستئثارها الكلي بتحديد سقوف الإنتاج والاسعار عن مصالح دول المعسكر منذ تشرين الثاني من العام الماضي، وقد فشلت وقتها الضغوط الأميركية في ثني أوبيك عن قرارها، الأمر الذي أشعل غضب واشنطن وكرّس خروج أوبيك من سيطرة المعسكر الغربي، وقد وصلت واشنطن في حنقها من أوبيك الى حدّ اتهامها بأنها منظمة تعمل لمصالح روسيا، كدلالةٍ على فشلها في السيطرة على تلك المنظمة التي باتت تحلّق خارج سرب مصالح المعسكر الغربي.
المملكة ترغب في توسيع أرامكو
- ثالثاً : واشنطن لن تسمح لأوبيك بالاستمرار في تحكّمها بالأسعار العالمية للنفط، فيما المملكة تستفيد من تخفيض الإنتاج السنوي، وقد نشرت وول ستريت جورنال مؤخراً خبر طرح الرياض بيع أسهم جديدة من أسهمها في أرامكو بقيمة ٥٠ مليار دولار رغبةً منها في توسيع أرامكو وإكسابها مزيداً من القوة، من هنا فإن
أسعار النفط ستزيد، وفي نفس الوقت تُطرح أسهم بقيمة ٥٠ مليار للبيع ما يعني استفادة الرياض على الجهتين في آن.
إرتفاع سعر النفط وتقلّص الاحتياطي الأميركي
- رابعاً : واشنطن لا ترى من أوبيك إلا السعودية، والمعلوم أن أسعار النفط الى ارتفاع في هذه المرحلة، إذ إنه من حوالي شهر ونصف الشهر زادت الأسعار من سبعين دولاراً تقريباً لتصل حالياً الى ٨٨ دولاراً للبرميل الواحد، ما يعني أن الزيادة في الأرباح كبيرة، فيما البيت الأبيض لا يريد أن تفوق أسعار البرميل لما فوق ال٨٠ دولاراً منعاً لانعكاس ذلك على موقعه الانتخابي .
أما أسباب ارتفاع سعر البرميل فمردّها الى تقلّص الاحتياطي النفطي الأميركي منذ أكثر من أسبوع، وهذا الانخفاض في الاحتياطي الأميركي مؤشر خطير جداً على مصير الطاقة العالمية بدءاً من الولايات الأميركية نفسها.
فمع بداية العام الحالي، تم سحب ٢٦٧ مليون برميل من الاحتياطي الاستراتيجي الأميركي، ما أدى اعتباراً من ٢٥ شهر آب الماضي الى حصول انخفاض بشكل كبير.
طبعاً هذا الارتفاع لم يكن ليحصل أو أن الأسواق النفطية العالمية بخير، لكن العكس هو المستحكم ولا لما اضطّرت واشنطن للسحب من احتياطيها، فضلاً عن عدم وجود وفرة في العرض وخروج الأسعار عن السيطرة الأميركية. - خامساً : زيادة الأسعار سببها الأساسي هو خفض السعودية لحجم إنتاجها وصادراتها من النفط، ففي حين كانت تصدّر سنوياً ٧ ملايين وخمسمائة ألف برميل يومياُ، وصل بها الإنتاج حالياً الى ٥ملايين ونصف مليون برميل بحسب آخر نشرات موقع بلومبرغ المتخصّص، الذي إعتبر أيضاً أن الرياض مستقرة في خفض إنتاجها حتى شهر تشرين الأول المقبل أو ربما لما بعده.
وما يزيد في الارتياب الأميركي من الرياض تعاونها مع الروس في المنظمة، وقد خفّضت موسكو إنتاجها الشهر الماضي الى نحو ٣٠٠ ألف برميل يومياً، وستخفّض مجّدداً خلال شهر أيلول الجاري الكمية نفسها، ما يُترجم بوضوح تعاوناً روسياً- سعودياً في مسألة الإنتاج والأسعار، والهدف المشترك لكلي البلدين وصول أسعار البرميل الى ١٠٠ دولار وأكثر.
هذا التعاون الروسي- السعودي في تخفيض الإنتاج من ضمن أوبيك بلاس بدأت تأثيراته تظهر ارتفاعاً في سعر البرميل، فضلاً عن تسجيل عاملين مساعدين لارتفاع في الاسعار هما النمو في الهند والصين.
الحرب النفطية مستعرة بين أوبيك والسعودية والولايات المتحدة
- سادساً : هذا الواقع الروسي- السعودي يحمل البيت الأبيض الى التطلّع نحو إيران، ومن هنا انتهاج "الليونة " مع طهران التي تُصدّر حالياً ٣ ملايين برميل نفط يومياً في محاولة من واشنطن لتعويضها ارتفاع الأسعار في الأسواق السعودية، علماً أنه ليس بإمكان إيران رفع سقف إنتاجها من النفط يومياً الى حدود ستة ملايين برميل،
لكن طهران وبعدما فُرضت عليها العقوبات الأميركية أُزيلت من "كوتة" أوبيك أي حصتها، وبالتالي فإن ايران يمكنها ارتقاء سقوف أوبيك أو سياساتها، وبإمكانها توجيه حجم إنتاجها كما تشاء من دون رقيب أو حسيب من أوبيك.
والواضح أن الحرب النفطية مستعرة بين أوبيك والسعودية من جهة، وبين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من جهة أخرى، الأمر الذي قد ينقل هذه المواجهة مجدّداً وفي أي وقت من مواجهة نفطية اقتصادية الى مواجهة سياسية تحديداً مع الإدارة الديمقراطية الحالية، خصوصاً أن الرياض تنسق كثيراً مع روسيا في أوبيك بلاس، وهذا قد يكون سبب أساسي لامتناع موسكو الى الآن عن تسليم إيران مقاتلات سوخوي ٣٥ المتوقعة، في ما يبدو تحذيراً روسياً لإيران من مغبّة التعاون مع واشنطن لكسر الأسعار النفطية لأوبيك بلاس ومسايرة روسية للسعودية حيال تحالف موسكو مع طهران في حرب أوكرانيا.
ضغوط وجهود للتوصّل الى التطبيع
- سابعاً : مستشار البيت الأبيض لسياسات الشرق الأوسط بريت ماكجورغ، برفقة باربرا ليف مساعدة وزير الخارجية الأميركية، على بعد ساعاتٍ من الوصول الى الرياض وسط معلومات عن أن هدف الزيارة الى المملكة تأتي في سياق وضع اللمسات الأخيرة على اتفاق التطبيع مع السعودية إثباتاً إضافياً لما تبذله الإدارة الأميركية الديمقراطية من ضغوط وجهود للتوصل الى هذا التطبيع في أسرع قت ممكن.
والمعلوم أنه، وبالتزامن مع وصول الوفد الأميركي الى الرياض، ثمة وفد فلسطيني وصل الى المملكة ليلتقي مستشار الرئيس الأميركي لمتابعة التنسيق في المواقف قبل تطبيع مرتقب، بحسب القناة ٢٤.
هذا الاجتماع الثلاثي المزمع انعقاده في الرياض يُقال إنه من المرجّح أن يضع أسس الدعم السعودي المتجدّد مالياً وسياسياً لمنظمة التحرير الفلسطينية ليطمئن الفلسطينيون الى التطبيع، بحسب وول ستريت جورنال.
ومن المتوقّع، وفق معلومات متقاطعة وان كانت غير مؤكدة، ان الوفد الأميركي سيضمن إسرائيل في هذا الاجتماع، في مقابل ضمان المملكة الجانب الفلسطيني وفق شروط قيام دولة فلسطينية منحهم ضمانات أميركية.
أما صحيفة نيويورك تايمز، فتعكس عِلماً أميركياً دقيقاً بالحوادث التي تحصل على الحدود السعودية- اليمنية خلال ما يحصل مع المهاجرين الأثيوبيين في خبر تنشره الصحيفة لأول مرة غامزةً من قناة الإعداد للقاء الرئيس الأميركي جو بايدن بولي العهد السعودي محمد بن سلمان على هامش قمة العشرين المزمع انعقادها في الهند قريباً، وبالتالي إعداداً لأوراق ضغط على السعوديين لمقايضتهم بين التطبيع وخفض أسعار النفط بزيادة الإنتاج، وإلا ففتح ملفات مواجهة ديمقراطية سعودية تطيح بكل آمال ساكن البيت الأبيض.