منذ سنوات، وتحديداً منذ اعتلاء ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان سدّة المسؤوليات في رسم استراتيجيات وسياسات المملكة والخليج تجاه أزمات المنطقة، ثمة حقيقة واجهها اللبنانيون أولاً ألا وهي توقّف أي دعم سعودي مباشر للبنان.
الدول العربية أمام منهجية مختلفة في التعاطي مع قضايا المنطقة
بقي الاعتقاد سائداً بأن الرياض لم تعد تريد الاهتمام الكبير بلبنان بالنظر للوجود الإيراني الضاغط والمتحكّم بمفاصل الدولة من خلال حزب الله، وقد جاءت أحداث غزة منذ ٧ تشرين الأول لتشير الى انسحاب الموقف السعودي والخليجي عموماً من لبنان على القطاع، رغم قدسية قضية فلسطين لدى العرب، ورغم حساسية هذا الملف بالنسبة للرأي العام العربي والإسلامي.
الواضح أن الدول العربية ولا سيما الخليجية، باتت أمام منهجية مختلفة في التعاطي مع قضايا المنطقة عن تلك التي سبقتها على مدار عقود وعقود.
لا قدرة على الاستمرار بالتضحية
حالياً القيادات العربية وبخاصة الخليجية، حملت معها إرثاً مرهقاً من التورّط والتدخّل والالتزامات تجاه قضايا المنطقة وبخاصة الملفين الفلسطيني واللبناني، بحيث لم تعد تلك القيادات قادرة على الاستمرار في التضحية بكل شيء، وبصورة دائمة على حساب أمنها واستقرارها ومستقبلها ونموها ومشاريعها النهضوية لشعوبها، فضلاً عن أنها تعبت من مواجهة التدخّل الإيراني بالنيابة عن أصحاب الحقوق والأرض سواء في لبنان أو فلسطين.
عصر العطاء العربي المجاني ولّى
السعودية ومعها الإمارات والبحرين والكويت وسلطنة عُمان، باتت تبحث عن مصالحها بالأولوية وتبني سياسات استدامة واستقرار لأنها لم تعد تريد حروباً بل تنميةً وازدهاراً ومشاريع، وهي أمور لا يمكن أن تحصل اذا استمر التوتر الإقليمي سيّد الموقف ومعه الحروب والنزاعات والخراب والدمار،
فقد أعطى الخليجيون والعرب عموماً للبنان والقضية الفلسطينية الكثير الكثير ولم يحصدوا سوى الخيبة والجحود وقلة الوفاء والجميل، وبالتالي فإن عصر العطاء المجاني قد ولّى لدى قيادات المنطقة الخليجية العربية وباتت الحسابات تنطلق من مصالح دولها وشعوبها أولاً.
لن يكون العرب ملكيين أكثر من الملك بعد اليوم
من هذه الزاوية، يمكن فهم المواقف والتصاريح والأقلام الخليجية والعربية في تناولها قضايا المنطقة ولا سيما الملفين الفلسطيني واللبناني : فالعرب لا يهملون ولكن لن يتورّطوا أكثر مما تورّطوا في السابق، ولمَن يقول إن العرب غائبون عما يحصل في غزة ولبنان الجنوبي عليه النظر الى مليارات المساعدات الإماراتية والسعودية للقطاع والسلطة الفلسطينية، وحملات الإغاثة والجسور الجوية الضخمة المنتظمة والمساعي الديبلوماسية في أروقة الأمم المتحدة من أجل غزة ومشاريع القرارات والقرارات ذات المنبع الخليجي العربي، سعوديةً كانت أم إماراتية إم سواها، فالعرب لا يهملون لكنهم لن يكونوا بعد اليوم ملكيين أكثر من الملك، لا في لبنان الغارق في الأجندة الإيرانية، ولا في فلسطين الغارقة في انقسامات فلسطينية مستمرة وفي انفصام الشخصية الفلسطينية بين “الأخونة” ( الأخوان للمسلمين ) أعداء الأنظمة العربية والخليجية وتوابع إيران، فالعرب يقولون لنا إنهضوا لنؤازركم لكن لا للاصطفاف مع الإيراني على حساب العروبة والانتماء للمنطقة وتاريخها.
لا لمنح إيران أوراق دعم مجانية
العواصم العربية والخليجية الفاعلة ليست مستعدة أبداً لمنح الأوراق الإيرانية دعماً وتثميراً، لا في لبنان ولا في قطاع غزة وفلسطين، وفي الوقت عينه لا تقبل بأن يقوم التطرّف الإسرائيلي اليميني المتوحّش بإبادة الشعب الفلسطيني كما هو حاصل،
لكن أن يتوقّع البعض أن تهاجم الجيوش العربية إسرائيل، فإنه الجهل وقُصر النظر بعينهما، وهو دليل فشل خطير في قراءة خارطة التوازنات والحسابات الإقليمية والعربية والعالمية في الشرق الأوسط، واختلافها عن الأزمنة الغابرة بحيث أن مَن ينبغي مواجهته اليوم هو الأميركي أولاً، والدول العربية والخليجية ليست على استعداد على الإطلاق لمواجهة الولايات المتحدة الأميركية، لا عسكرياً ولا سياسياً لصالح إيران ووكلائها التابعين في المنطقة، ولا من أجل ثلوج لبنان جداوله وأنهره ومناخه وقدسية القدس، فالقدس لها أهلها وهم أدرى بشعابها.
قراءة الموقف العربي بعيداً عن المزايدات
من هنا، نرى أن الوجود السياسي العربي في هذه المرحلة قائم بين حدّين : حدّ مصالح الدول والشعوب العربية الذاتية أولاً وحدّ عدم المساهمة في إكساب الإيرانيين دعماً عربياً مهماً، وقد ركبت طهران موجات القضايا المقدسة كالقضية الفلسطينية والتي لا توظفها خدمةً للشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية بل خدمةً لأجنداتها ومخططاتها الإقليمية، بحيث أن آخر هموم نظام الملالي فلسطين والقدس، وبالتالي علينا قراءة الموقف العربي بعيداً عن الانفعالات والمزايدات والاستعطاف والاتكال، فلسان حال العرب والخليجين اليوم يقول : لن نقاتل عنكم ولن نضحي عنكم، قوموا لنقم معكم وإلا فلدينا ما يكفي من أولويات في دولنا، وعندما تتفقون تعالوا لنتحدّث.