مَن يراقب تطورات الأوضاع في المنطقة على وقع الحرب في أوكرانيا وتداعياتها الدولية على أكثر من صعيد سياسي واقتصادي وطاقوي ومالي وعسكري واستراتيجي، لا يمكنه إلا أن يخرج بسلسلة من الخلاصات التي تشي بما سيكون عليه العام 2023 خاصة على صعيد منطقة الشرق الأوسط ومحيطها.
قمة بغداد 2 التي انعقدت في عمان بنسختها الثانية، والتي جاءت للتأكيد على دعم العراق وسيادته وأمنه واستقراره، ولتطوير آليات التعاون معه بما يعزّز الأمن والاستقرار، أرست في بيانها قواعد من شأن اعتمادها قلب موازين القوى في المنطقة كاملة.
بيان القمة الختامي الذي شدّد على أهمية مشاريع التعاون بين دول مجلس التعاون الخليجي والعراق، وخصوصاُ في مجالات الربط الكهربائي والنقل، وغيرها من المشاريع الإقليمية التي تسهم في تحقيق التكامل الاقتصادي والتنمية وبناء الجسور مع الأسواق العالمية، وبما ينعكس إيجاباُ على المنطقة برمتها، والذي اعتبر أن انعقاد هذا المؤتمر بدورته الثانية يعكس الحرص على دعم دور العراق المركزي في توسعة التعاون الإقتصادي الإقليمي، وبناء الجسور وتعزيز الحوار الإقليمي، ما يُسهم في جهود إنهاء التوترات وبناء علاقات إقليمية بنّاءة تحقّق النفع المشترك، كما كان لافتاً أن تحقيق التنمية الإقتصادية ونجاح مشاريع التعاون الإقليمي يتطلبان علاقات إقليمية بنّاءة قائمة على مبادئ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام القانون الدولي واعتماد الحوار سبيلاً لحل الخلافات، وعلى التعاون في تكريس الأمن والاستقرار ومحاربة الإرهاب وتحقيق الرخاء، إضافة الى الحديث عن انعكاسات الأزمات الإقليمية والدولية على العراق والمنطقة، مؤكداً أن تجاوزها يستوجب تعاوناً إقليمياً شاملاً ومقاربات ومعالجات إقتصادية وسياسية جادة وفاعلة تعكس المصالح المشتركة، وتدعم العملية التنموية في العراق وتسهم في عملية التنمية الإقليمية. هذا البيان بكل مندرجاته أعلاه أكد بجملة واحدة حقيقة أن الأوان قد آن لخروج العراق من عباءة إيران وسيطرتها مع نظام الملالي عليه.
والملاحظ في هذا السياق ليس فقط الدور الفرنسي المتمثّل بمشاركة الرئيس إيمانويل ماكرون شخصياً لإبراز دعم فرنسا الكامل لعراق يستعيد استقلاله وسيطرته على أمنه وأراضيه وسيادته، بل أيضاً الدور الأميركي الذي تجلّى بترحيب واشنطن بهذه القمة رغم غيابها عن المشاركة فيها، وقد دعمت واشنطن قمة بغداد السابقة عام 2021، إضافة إلى لقاءات سفيرتها في بغداد ألينا رومانوسكي المستمرة مع المسؤولين في الحكومة العراقية.
واشنطن ترغب بالمحافظة على الأوضاع السياسية الراهنة في العراق والمنطقة كما هي، وتجنّب أي تغييرات بموازين القوى، والتي من الممكن أن تؤدي الى الإخلال بسياسة المنطقة بما يُفضي لجولة صراعات جديدة، وقد غابت عن القمة بسبب التركيز على ملفات أخرى من العالم، من دون إهمال العراق، نظراً لعلاقته الوثيقة بأي فوضى قد تندلع في المنطقة، من هنا دعم واشنطن لحلفائها المشاركين في القمة مثل مصر والأردن، لدفعهما الى الإضطلاع بدور بارز في العراق، وذلك رغبةً منها بتجنّب ترك هذا البلد فريسة لتصاعد النفوذ الإيراني فيه، فقمة بغداد 2 بهذا المعنى كرّست معادلة إخراج العراق من التأثير الإيراني بغطاء أميركي- فرنسي- غربي كان في أساس الإطاحة بنظام الشاه والإتيان بنظام الخميني والجمهورية الإسلامية في السبعينيات حيث كان المطلوب في حينه زعزعة أمن المنطقة والدول الإقليمية لتكريس السيطرة والهيمنة الغربية على موارد الدول الغنية، ولا سيما الدول الخليجية انطلاقاً من مفهوم الحمائية الاستراتيجية العسكرية في مقابل الأولوية في الموارد النفطية والثروات الطبيعية.
هذا الدور الإيراني شارفَ على الانتهاء خاصة بعد التغيّرات الجيو سياسية التي اجتاحت المنطقة والعالم وفي طليعتها الحرب في أوكرانيا وصعود طبقة حاكمة عربية غير تقليدية نفضت عنها غبار المؤامرة التي حيكت ضد أنظمتها منذ العام 2011.
من ناحية أخرى وفي جردة العام 2022، يمكن اعتبار أن كلاً من الرئيس فلاديمير بوتين ومرشد الثورة الإيراني علي خامنئي هما اللذان فقدا أوراقاً أساسية لديهما : فمن جهة الرئيس الروسي فشل في تحقيق أهدافه في الفترة الزمنية التي أرادها في أوكرانيا، فلا الناتو ضعف وانقسم ولا أوروبا انقسمت وضعفت ولا أوكرانيا سقطت بيده وتغيّر رئيسها الذي سرق النجومية العالمية لهذا العام، وقد توّجها بزيارته الأخيرة الى الولايات المتحدة الأميركية التي كرسته رئيساً ومقاوماً شرعياً للاحتلال الروسي، كما أن الرئيس بوتين لم يتمكن من إبعاد الصواريخ الغربية عن حدوده، ولا هو تمكّن من إخراج مقاطعتي الدونباس ودونتسك من التهديد الأوكراني المستمر والضاغط عليه، ولا هو استطاع ضمان سيطرته الكاملة على المناطق الأربع التي أعلن ضمها في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
وأهم ما فشل فيه الرئيس بوتين هو بناء شبكة تحالفات دولية مسانِدة له ميدانياً وسياسياً وإعلامياً، وقد امتنعت الصين عن الانخراط الى جانبه في المواجهة مع الغرب، فيما الهند تبحث عن اقتصادها وحاجاتها التنموية … وحدها بيلاروسيا والتي يُعتبر رئيسها جندياً في صفوف جيش الرئيس بوتين تجاوبت بالحد الأدنى الى الآن مع الكثير من التردّد والمماطلة والضغوط من بوتين، فالرئيس الروسي الذي تغيّب عن قمم ومنتديات ومؤتمرات دولية وإقليمية، عزلَ نفسه بحيث أنه ما كان في البداية مسألة استراتيجيا وجيو سياسة باتت مسألة شخصية له ومصيرية لشخصه ونظامه.
أما مرشد الثورة الإيرانية علي الخامنئي ونظامه فقد سقطا معنوياً بالضربة القاضية منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية إثر مقتل مهسا أميني، ومن لحظة نزع المرأة الإيرانية للحجاب الذي ميّز نظام الثورة الإيرانية على مدار عقود، لا بل منذ العام 1979 حيث ومع نزع الحجاب، نُزعت ستارة النظام وتكشفت عوراته وبدأ ينهار، ومنذ هذه اللحظة من الوهن والضعف راح يتخبط داخلياً وخارجياً مع محاصرته من 4 محاور إقليمية ودولية :
المحور الأول : توقّف مفاوضات الاتفاق النووي وإعلان الأميركيين رسمياً، وعلى لسان روبيرت مالي عدم إمكانية العودة حالياً للتفاوض.
وعلى الرغم من المحاولات الإيرانية الأخيرة الإيحاء بوجود إمكانية استئناف تلك المفاوضات بالاتصالات بالوسيط الأوروبي الا أن قراراً أميركياً غربياً من دول الخمسة +1 يرفض العودة الى التفاوض ما لم تفتح إيران بدايةً المواقع الثلاثة السرية حيث يُخصّب اليورانيوم بدرجات عالية، لاسيما وأن طهران وفي مرحلة الضغوط الديبلوماسية السابقة إثر تعثّر التفاوض في فيينا كانت قد أصدرت أكثر من إعلان عن استئنافها التخصيب خلافاً لروحية وأهداف التفاوض وأي اتفاق جديد.
المحور الثاني : التقارب لا بل الشراكة الإقتصادية والتجارية والمالية والسياسية بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، التي مع دول مجلس التعاون كسرت حلقة الربط والتحالف بين إيران والصين وتفكّك بذلك المحور الثلاثي الذي لطالما راهنت عليه طهران في مواجهة الغرب ( الصين - روسيا - إيران ) ما زاد ويزيد من عزلة طهران، خاصة متى نظرنا الى مندرجات البيان الصيني - السعودي - الخليجي الأخير إثر زيارة الرئيس الصيني تشي الى الخليج وما تضمنه من إدانة لسياسات إيران التدميرية في المنطقة.
المحور الثالث : الانخراط المتهوّر في حرب الرئيس بوتين ضد الغرب انطلاقاً من أوكرانيا واصطفافه المعلن الى جانبه وتزويده بالمسيّرات والصواريخ وربما أكثر،
فهذا الانخراط والاصطفاف الذي أرادته طهران ضاغطاً على الغرب لمآربها المصلحية، انقلب عليها غضباً غربياً زاد من احتمالات سقوط النظام في طهران.
المحور الرابع : الحصار الديبلوماسي والسياسي العربي والخليجي الذي بدأ ينزع من طهران السيطرة على العراق ( العودة الى ما قيل أعلاه حول قمة بغداد 2 ).
على كل هذه المتغيّرات، يقفل العام 2022 منذراً بتبدّل المشهد الإقليمي والدولي اعتباراً من العام 2023 والذي سيشهد تحولات كبرى وتسويات إقليمية ودولية تعيد الأمور الى ما قبل معادلات 11/9 وإفرازاتها منذ الاحتلال الأميركي للعراق.