إرتدت المواجهة الفرنسية- الروسية مؤخراً، إثر تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، طابع التحدّي والتحدّي المتبادل، وظهرت للرأي العام الأوروبي والدولي بأنها مواقف “إبنة ساعتها”، وقد ذهبَ الكثيرون باتجاه لوم الرئيس الفرنسي على تحدّيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحديثه عن احتمالات إرسال جنودٍ فرنسيين الى أوكرانيا لمقاتلة الروس الغُزاة.
ماكرون وهاجس الرؤية المستقبلية الاستراتجية لأوروبا
مَن يسمعُ لأول وهلة مثل هذه الموقف الفرنسي يظنّ أن فرنسا ستدخل في حربٍ مباشرة مع الروس في أوكرانيا، لكن بعد التمعّن فيه يمكن استشراف منحى سياسي فرنسي جديد لا بدّ وأن يلتحق به لاحقاً الأوروبي لأن المسـألة أعقد وأخطر وأعمق من مجرد دعم أوكرانيا.
وعندما يقول ويؤكد الرئيس ماكرون أنه لا يجب أن يربح الرئيس بوتين الحرب في أوكرانيا، فهو لا يقول ذلك من منطلق تحدٍّ، بل من منطلقٍ يمكن وصفه ” بالرؤية الاستراتيجية ” المستقبلية لأوروبا، وقد أوضحها في ندوته الصحفية المتلفزة منذ أيام وقبل وبعد لقائه المستشار الألماني أولاف شولتز ورئيس الوزراء البولندي دونالد توسك في برلين، ومن ثمّ في مواقفه بعد القمّة المذكورة، إذ طرحَ السؤال الذي يخشى الكثيرون في الاتحاد الأوروبي من مجرد طرحه ألا وهو: ماذا لو تمكّن بوتين من الانتصار على أوكرانيا؟
باريس واستقراء خطر التطورات الميدانية في أوكرانيا
النتائج ستكون حتماً كارثية على أوروبا سياسياً واقتصادياً واستثمارياً، إذ إن غالبية الاستثمارات في أوروبا ستجد نفسها مهدَّدة، والاتحاد الأوروبي سيدخل في مرحلة عدم استقرار سياسي وأمني، ما يعني القضاء على أي أمل بنجاة الاتحاد الأوروبي من تداعيات مثل هذا الانتصار.
من هنا، فإن المصير الذي يتمُّ حالياً رسمه ليس مصير أوكرانيا بقدر ما هو مصير أوروبا برمّتها … وهنا المأزق لأن ما يهمُّ فرنسا هو إفهام شركائها الأوروبيين أن انتصار بوتين وجيشه في أوكرانيا لن يقضي على أوكرانيا فحسب، بل على كامل أوروبا استراتيجياً وعسكرياً واقتصادياً وسياسياً،
لذلك فإن جرأة الموقف الفرنسي تنبعُ من التحسّس العميق بجدّية التحدّيات التي تواجه أوروبا بغض النظر عن مسألة دعم أوكرانيا، فقد فرضت أوكرانيا نفسها خط الدفاع الأول والأساسي عن الديمقراطيات والأنظمة الأوروبية، لا بل عن مصير الاتحاد برمّته، واستقراء باريس وتحسّسها لهذا الخطر نابعَين من القراءة الموضوعية لتطورات الحرب في الميدان مع تراجع القدرات الأوكرانية أمام تعاظم القدرات الروسية، وتحقيق الجيش الروسي خروقات مهمة على طول الجبهات الشرقية لأوكرانيا في الآونة الأخيرة.
لا مبادرة فرنسية أُحادية الجانب في قضية أوكرانيا
عام 2014، كانت مواقف أوروبا منقسمة حيال جزيرة القرم ومسألة ضمها الى روسيا ولم تتحرّك أوروبا في حينه بحزمٍ لمواجهة الرئيس الروسي، ما شجّع الأخير على الاستهتار بالموقف الأوروبي وذهابه عام 2022 الى حدّ اجتياح وغزو شرق أوكرانيا وتنظيم استفتاءات شكلية لضم مقاطعتي الدونباس ودونتسك الى روسيا بحجة إتنية السكان ولغتهم وتاريخهم السوفياتي القديم، واليوم فرنسا على حق وبغضّ النظر عن سياسات الرئيس ماكرون الداخلية في فرنسا، وبغضّ النظر عن معارضتنا له في العديد من الملفات الداخلية والخارجية، إلا في ما قاله بخصوص أوكرانيا بمثابة دقّ ناقوس خطر لأوروبا التي لا تزال تنظر الى أوكرانيا فقط من باب المساعدة والدعم والتسليح فيما التحدّيات تتجاوز أوكرانيا الى الاتحاد الأوروبي، فانتصار بوتين في أوكرانيا لو تحقّق سيفتح الباب واسعاً أمام غزوه مولدافيا وجورجيا وفنلندا ودول البلطيق وربما دول أخرى من تلك التي إعتبرها ساكن الكرملين حقاً لروسيا والاتحاد السوفياتي، ومن هنا القلق من انتصار بوتين في أوكرانيا إذ لا ضمانات ولا شيء يمكن أن يمنعه عندها من قضم دولٍ وأراضٍ أوروبية أخرى … ولذا ترى باريس ضرورة المواجهة ولكن من دون أن يعني ذلك المبادرة الى الهجوم على الروس ولا اتخاذ مبادرة فردية فرنسية أُحادية الجانب.
وحدةُ أوروبا مطلوبةٌ اليوم أكثر من أي وقت مضى
انطلاقاً من هذه الثوابت، يمكن قراءة القمّة الثلاثية الأخيرة في برلين، والتي خرج منها كل من المستشار الألماني ورئيس الوزراء البولندي متفقَين مع شريكهم الفرنسي بعدما أوضح الأخير حقيقة موقفه ودوافعه وخلفياته، من هنا على أوروبا إذا اليوم التوحّد أكثر من أي يومٍ مضى، فاتخاذ موقفٍ أوروبي صارم وحازم في وجه الرئيس بوتين بات ضرورة ملحّة، ولا يجب بأي شكلٍ من الأشكال استبعاد إمكانية خسارة أوكرانيا للحرب في الأسابيع والأشهر المقبلة، فتوازن القوى لم يعد لصالح الأوكرانيين وأبسط مثال على ذلك عندما يُطلقُ الجيش الأوكراني قذيفةً يُطلقُ الجيش الروسي مقابلها عشر قذائف …من هنا ضرورة تسليم الأوكرانيين المزيد من الإمكانات والأسلحة القادرة على قلب الموازين وتمكينهم من استعادة المبادرة الميدانية قبل فوات الأوان …فوراً وليس غداً أو بعد غدٍ أو في العام 2025 أو 2026 …
ماذا لو حوّلت روسيا الأوروبيين الى سيّاح في بلدانهم؟!
باريس طرحت المعادلة الصعبة من دون خيار أو وجل: روسيا قوة نووية أولى والتعاطي معها بالتحدّي يتطلّب قدرةً جماعية على المواجهة والضغط، وكذلك فرنسا القوة النووية الأوروبية الوحيدة
(إذا استثنينا بريطانيا النووية التي هي الى الآن خارج الاتحاد) وبين هذه وتلك، تكمنُ المعادلة الدقيقة والخطيرة في مواجهة بوتين وطموحاته وأطماعه المهدّدِة لأمن أوروبا ومستقبلها، إذ إن باريس تريد أن يكون بإمكان الأوروبيين أن يشعروا بأنهم محميين، فالقدرة النووية الفرنسية تضمن أمن فرنسا وشركائها، ومصداقية أوروبا على المحكّ إذ في حال انتصرَ بوتين انتهت أوروبا على مستويات الأعمال والديبلوماسية والمصداقية الدولية كقوة، ويصبحُ بإمكان موسكو السير ذهاباُ وإياباً الى بولندا وإحكام سيطرتها على المصالح الأفريقية ووقوف أميركا الجنوبية ضد الأوروبيين الى جانب الروس، خصوصاً مع احتمالية كبيرة بعودة الرئيس الجمهوري الى البيت الأبيض في شهر تشرين الثاني المقبل، ما سيُضاعفُ من احتمالات بيع وشراء أوروبا أميركياً للروس من خلال صفقات تجعل الأوروبيين “سيّاح” في بلدانهم، وقد سُحِبت منهم كل إمكانية وجود دولي على الساحة العالمية.
لا مغالاة بالقول إن مصير أوروبا على المحكّ
الحرب باتت حقيقة، والرئيس بوتين يُرسلُ عناصر كي جي بي (الاستخبارات القديمة في الاتحاد السوفياتي) للتبشير بأن أوروبا يجب أن تمتدّ من البرتغال الى فلاديفوستوك، في الوقت الذي يدعمُ فيه الحركات الاجتماعية كمثل حركة “القمصان الصفر” الذين استقبلهم في مقرّه وسط حملة دعائية أطلقوها بمشاهدة
(شاشة أ آر تي الروسية)، كل هذا لضرب استقرار فرنسا ومن خلالها استقرار أوروبا.
ماكرون يُصرُّ لغوياً على وصف روسيا بالخصم لا العدو، كما يُصرُّ على اعتبار أن فرنسا ليست بحالةٍ حرب مع روسيا، وأن بلاده لن تُبادرَ الى الهجوم، وكل ما سيحصل في المستقبل سيبقى مسؤولية بوتين، فيما الفرنسيين ينطلقون من أن مَن يريدُ السلم عليه الإعداد للحرب…
ما يحصلُ إذاً في أوكرانيا بلغَ مبلغاً كبيراً من الخطر على أوروبا والدقّة والحراجة للأوروبيين … ولا نُغالي إن قلنا أن مصير أوروبا على المحكّ وهو كذلك …
يبقى أن الجيش الفرنسي قادرٌ على دخول الحرب لكنه لن يدخلها بمفرده بل الى جانب جيوش أوروبا بعد التنسيق في ما بين الشركاء وقياداتهم العليا، وثمة ما يجري على هذا الصعيد في الكواليس … حالياً.