المياه في جيو سياسة العلاقات الإيرانية- الأفغانية المتوترة

n00108662-b

تشهد العلاقات الإيرانية- الأفغانية توتراً غير مسبوق منذ فترة نتيجة الصراع المتجدّد حول تقاسم مياه نهر هلمند الذي يمر بالبلدين، وقد بلغ الأمر حدّ تحذير  الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، حركة طالبان من عواقب التملّص من اتفاقية تخصّ تنظيم إمدادات المياه الواردة من أفغانستان، فيما طالبان أبدت استعدادها لمواجهة مسلّحة مع طهران، مما يهدّد بخطر حدوث تصعيد في منطقة هي في الأساس مضطربة.
ومن أجل معرفة أهمية وحقيقة الصراع وجذوره بين البلدين حول نهر هلمند المذكور، لا بدّ من العودة قليلاً الى تاريخ الخلافات بين البلدين بشأن المياه بين إيران وأفغانستان والتي تعود إلى سبعينيات القرن العشرين عندما كانت أفغانستان تحت السيطرة البريطانية، ووقع البلدان اتفاقيات لتنظيم الحقوق المائية، آخرها كان عام 1973، ويُذكر أن كلاً من إيران وأفغانستان كادتا أن تخوضا حرباً في التسعينيات، لكن عادت العلاقات وتحسّنت بينهما وأقامت طهران علاقات أفضل مع طالبان بعد التدخّل العسكري الأميركي في أفغانستان عام  2001، لكن وبعد استيلاء طالبان على السلطة مجدّداً في عام 2021، ورث النظام الجديد بعض التوترات المستمرة مع إيران، وأبرزها الخلاف بشأن توزيع مياه نهر هلمند، وهو ما كان على الدوام موضوع مفاوضات بين البلدين منذ نحو قرن.
والجدير توضيحه في هذا الإطار هو أنه لا توجد نزاعات إقليمية كبيرة بين إيران وأفغانستان، على عكس النزاعات مثلاً  بين أفغانستان وباكستان أو بين باكستان والهند، ومع ذلك فإن الخلاف بشأن توزيع الحصص المائية من نهر هلمند، الذي يمر 95 في المئة منه بأراضٍ أفغانية، يهدّد علاقات البلدين مع معاناتهما من تفاقم مشكلات الجفاف وتغير المناخ، وسوء إدارة المياه، بحيث واصلا بناء السدود وحفر الآبار وتحويل المياه وزراعة المحاصيل التي لا تناسب تغيّر المناخ، ويُعتبر نهر هلمند أحد أنهر البلاد الخمسة، يمتد عبر أفغانستان مسافة 1100 كيلومتر تقريباً حتى يبلغ بحيرة هامون عند الحدود مع إيران، ثم يكمل مساره إلى داخل إيران.

هذا ونص اتفاق عام 1973 على تدفّق ماء نهر هلمند إلى إيران بمعدل 850 مليون متر مكعب سنوياً في ظروف مناخية طبيعية، لكن الاتفاق لم يُنفذ بالكامل بسبب التطورات السياسية في البلدين، بما في ذلك انقلاب 1973 في أفغانستان، والثورة الإسلامية في إيران والاحتلال السوفياتي لأفغانستان عام 1979، وصعود حركة طالبان للسلطة عام 1995، إلا أن التوترات بدأت في شهر أيار الماضي  بعدما طلب الرئيس الإيراني من حركة طالبان "احترام" حقوق بلاده في نهر هلمند، وحذّر خلال زيارة لمحافظة سيستان وبلوشستان الحدودية، أفقر مناطق البلاد، التي تضرّرت بشدة من نقص المياه الأفغان من مغبّة عدم  احترام حقوق المياه لشعب سيستان.

بعد حوالي أسبوع من تحذيرات رئيسي، إندلعت مناوشات على الحدود أسفرت عن مقتل حارسين إيرانيين وعنصر في طالبان التي أرسلت آلاف الجنود ومئات المفجّرين الانتحاريين إلى المنطقة، بحسب مصدر مطّلع على الأمر تحدث الى وكالة بلومبيرغ، فقال إن الجماعة مستعدة للحرب، فيما اتهمت طهران السلطات الأفغانية بعدم الوفاء بالتزاماتها المنصوص عليها في اتفاق 1973 بشأن "حصة" إيران.
الخارجية الإيرانية أصدرت  بياناً إعتبرت فيه أن حكام أفغانستان أكدوا أكثر من مرة خلال العام ونصف العام الأخير على الوفاء بالتزاماتهم وفقاً لمعاهدة نهر هيرمند (الإسم الفارسي لنهر هلمند)، لكن من حيث التطبيق لم ينفذوا الالتزامات المترتّبة على هذه المعاهدة ولم يقدّموا التعاون اللازم بهدف إطلاق حصة إيران القانونية من مياه هذا النهر .
وأضاف البيان: "تحتفظ الجمهورية الإسلامية الإيرانية بحقها في اتخاذ التدابير اللازمة والتأكيد على المسؤولية الكاملة لأفغانستان في هذا الصدد".
 المتحدث بإسم طالبان من جانبه، ذبيح الله مجاهد، أكد أن كابول "متمسّكة بالإيفاء بالتزاماتها" لكنه أشار إلى أن منسوب المياه تراجع نتيجة "الجفاف الشديد"، معتبراً أن التصريحات غير المناسبة الصادرة عن الجانب الإيراني في هذا الصدد هي مصدر إضرار بالعلاقات بين البلدين، وبالتالي ينبغي "عدم تكرارها"، وكان مجاهد يشير إلى التحذير الصادر عن الرئيس الإيراني. أما من الناحية الجيو سياسية فيُعتبر النهر الذي يشكل أكثر من 40 في المئة من المياه السطحية لأفغانستان، مصدراً مهماً لكسب العيش للمقاطعات الجنوبية والجنوبية الغربية من البلاد. وهذا الأمر جعل نهر هلمند قضية وطنية لكن الحكومات الأفغانية المتعاقبة وجدت صعوبات في حل الخلافات بشأنه، وهو قضية وطنية أيضاً في إيران حيث حافظت الحكومات على نفس الموقف من ضرورة الحافظ على تدفقات المياه، إلا أنه، ومع مرور الوقت وازدياد الحاجات المتبادلة لهذا النهر، باتت القضية قضية سياسية بالكامل في كلٍ من أفغانستان وإيران.

وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبد اللهيان كان قد دعا السلطات الأفغانية إلى "فتح بوابات كجكي"، السدّ المقام على القسم الأفغاني من نهر هلمند، هذا السدّ الذي شُيّد في أبريل/ نيسان 1953، يُعتبر من أهم خزانات المياه في أفغانستان، وتم بناؤه بهدف توفير الكهرباء والمياه للري لأفغانستان، وزاد في الوقت ذاته من تدفق المياه إلى إيران خلال موسم الجفاف.
 بلومبيرغ من جهتها إعتبرت أن قادة طالبان دخلوا في سجال الآن مع جيرانهم بسبب الاحتباس الحراري، وتشير إلى أن حوالي 3 ملايين أفغاني فروا إلى إيران بحثاً عن المياه، مثل سردار علي (45 عاماً) الذي ذهب مع أسرته إلى سيستان وبلوشستان (التي تعاني أيضاً) من أجل الوصول إلى قرية أخرى "والحصول على 30 لتراً من مياه الشرب"، فيما تواجه  300 بلدة على الأقل في إيران إجهاداً مائياً حاداً مع ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض. وتشير بلومبيرغ إلى أن حوالي 20 مليون شخص فروا إلى المدن بعد جفاف الأراضي الزراعية.
والمعلوم أن طهران تتوجّس كثيراً من الوضع السياسي في بلوشستان وسيستان كي لا يأتيها شحّ المياه والجفاف بالمزيد من التوترات مع الحكومة المركزية. وكان مشرّعون إيرانيون قد حذّروا من أن الوضع في سيستان وبلوشستان مروع للغاية لدرجة أن "كارثة إنسانية" ستحدث إذا لم يحصل الناس على المياه، وفقاً لوسائل الإعلام المحلية، لكن على الرغم من خيار الدبلوماسية، استعدت طالبان للحرب بإعداد الجنود والمفجّرين الانتحاريين، ونشر مئات المركبات العسكرية والأسلحة التي خلفتها الولايات المتحدة.
في الآونة الأخيرة، جرت مفاوضات بين الطرفين إعتبرها الجانب الإيراني جيدة مع طالبان، وقد كلّف الرئيس الإيراني حسن كاظمي قمي (السفير الإيراني في أفغانستان) بمتابعة الأمر على اعتبار أن القضايا بين البلدين يجب أن تسير بشكل مباشر إلا أن التوتر استمر على الحدود بين البلدين.
اللافت في هذا السياق، أنه عندما يُنظر إلى جميع المناوشات والعنف على طول الحدود الأفغانية منذ استيلاء طالبان على السلطة، فإن الحدود الشمالية مع طاجيكستان والحدود الشرقية مع باكستان هي في الواقع أكثر اضطراباً من الحدود الجنوبية مع إيران، فيما الوضع لم يتغيّر كثيراً من ناحية عدد الحوادث التي تشير إلى تدخّل إيراني في أفغانستان. ويأتي الصراع على المياه في الوقت الذي تواجه فيه أفغانستان مشكلات اقتصادية طارئة، بحيث قالت منظمة العمل الدولية في تقرير أخير لها إن مئات الآلاف من الأشخاص فقدوا وظائفهم منذ عودة طالبان الى السلطة قبل عامين، وتتحمّل النساء العبء الأكبر منها، ولا يزال الاقتصاد مشلولاً بفعل العقوبات ولا يعترف المجتمع الدولي بإدارة طالبان، مما يفصل أفغانستان عن النظام المالي العالمي، فيما تحتاج أفغانستان إلى 4.6 مليار دولار هذا العام لدعم أكثر من 20 مليون شخص يواجهون الجوع الحاد، أي حوالي نصف السكان، وفقاً للأمم المتحدة، وبالتالي اذا نظرنا الى المشهدية الجيو سياسية للبلدين يمكننا القول إن الحكومتين في أفغاسنتان وطهران محرومتان من الموارد ولا يمكن لأي منهما تحمّل الحرب بتكاليفها ومعاناتها خصوصاً وأن إيران تدرك حجم وضخامة التحديات التي تواجها في شرقي آسيا وفي محيطها الاستراتيجي المباشر، فضلاً عن الحصار والعقوبات والوضع الإقليمي المتشنج معها، وبالتالي لا نرى مصلحة لإيران في فتح جبهة حالياً مع أفغانستان لاسيما وأن  إيران بحاجة إلى المياه، والتجار الأفغان بحاجة للوصول إلى الموانئ والأسواق الإيرانية، فهناك بالتالي كل الأسباب مجتمعة لتدفعهما الى تسوية خلافاتهما سلمياً الا اذا كان ثمة تدبير أخر يُعدّ له لزيادة الحصار والضغط على إيران وعلى منطقتي بلوشستان وسيستان للتمهيد لتطورات ميدانية تُضعف إيران في خاصرتها الرخوة في إطار التصويب والاستهداف الإقليمي والدولي عليها.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: