تشهد الجولة الحالية من المفاوضات حول الاتفاق النووي الإيراني عملية شدّ حبال بين الجانبين الأميركي والإيراني.طهران يبدو أنها وقعت في الفخ الذي نصبته للأميركيين عندما تعاملت مع مسوّدة الإتحاد الأوروبي بمنطق التدقيق والبحث وطلب تعديلات، مراهنةً على قبول أميركي فوري، وبالتالي تحسين موقعها التفاوضي، الا أن واشنطن وحتى الساعة اتخذت من التعديلات الإيرانية ذريعة للتباطؤ في الرد، في وقت طهران بحاجة ماسة الى إنجاز الاتفاق لأسباب داخلية وخارجية كثيرة بنفس حاجة الأوروبيين الى الاتفاق لضمان إمدادهم بالطاقة وتوظيف استثماراتهم التجارية في إيران.
صحيح اذا أن الكرة الآن هي في الملعب الأميركي في وقت تبدو إيران مستعجلة، وقد حاولت تحسين شروطها لكن محاولتها هذه انقلبت عليها، فيما الأميركيون يبادلونها المناورات للرهان على الحاجة الى الاتفاق، ولم تتوانَ طهران، تعبيراً عن استعجالها، في انتقاد واشنطن يوم الإثنين الفائت لتأخرها عن إعطاء إجاباتها على المقترحات الإيرانية على النص النهائي.واشنطن ردّت بنفي حصول أي تأخير معتبرةً أن ثمة مسائل عالقة لا بدّ من حلها ” لأن طهران لم تعطها إجابات واضحة ” وكأن لسان حال واشنطن يقول لطهران : ” أردت التذاكي “علينا بملاحظات ومقترحات إضافية في الساعات الأخيرة من التوقيع ونحن بالتالي ندرس مقترحاتك، فلو أردت السرعة والإستعجال ما كان ينبغي عليك التقدم بمقترحات جديدة …
الموقف الأوروبي طبعاً أكثر مرونةً وتعاوناً مع ايران لأن أجندة الأوروبيين مرتكزة على ثلاث أولويات:
– الأولى : تأمين الطاقة الإيرانية على أبواب الشتاء القارص
– الثاني : منع إيران من الاستحصال على القنبلة النووية
– الثالث : قطع الطريق أمام الروس والصينيين لاستثمار الحاجة الإيرانية الى أموال والى رفع العقوبات عنها واحتكار الاستثمارات التجارية والاقتصادية في السوق الإيراني. منسق العلاقات الخارجية الأوروبية جوزف بوريل أعلن حصول جولة مفاوضات جديدة في فيينا خلال هذا الأسبوع لدفع الأمور باتجاه التوقيع بعدما كانت الجولة مفترضة الأسبوع الماضي.
واشنطن من جهتها تبدو أكثر تروٍ رغم استعدادها للتوقيع ورغم حاجتها له لأسباب داخلية وخارجية عديدة، ليس أقلها الانتخابات النصفية للكونغرس والحاجة لإنجاز على مستوى الاتفاق النووي مع إيران يرفع من شعبية الديمقراطيين والرئيس جو بايدن ويقطع الطريق أمام الجمهوريين، بالإضافة الى الأهداف الاستراتيجية الكبرى لواشنطن وأهمها تفكيك محور روسيا – إيران – الصين من خلال سحب الإيرانيين من سيطرة هذا المحور لتفكيك التحالفات بين دولها.الناطق بإسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس أعلن في تصريحه الأخير تشجيع واشنطن بتخلي إيران عن طلبات لا يمكن القبول بها كمثل شطب الحرس الثوري عن لائحة الإرهاب، معلناً أن الأطراف باتت أقرب الى اتفاق مما كانت عليه في الأسبوعين الأخيرين،لكن ومع ذلك، يتابع برايس، تبقى بعض المسائل العالقة التي هي بحاجة لحل رافضاً تفصيلها.وقد أنهى حديثه بالتهكّم عندما قال إنه لا بد من بعض الوقت لهضم التعليقات الإيرانية.
إيران تعتبر أن الولايات المتحدة مسؤولة عن الوضع الحالي للمفاوضات والاتفاق، ولم يتوانَ الناطق بإسم وزارة الخارجية الإيرانية ناصر كناني عن رمي الكرة في ملعب عدم مسؤولية الطرف الأميركي وعدم جديته، داعياً واشنطن الى التصرف بمسوؤلية ” للانتقال الى المرحلة التالية.
الديبلوماسية الإيرانية كعادتها تشرعن وتبيح لنفسها وضع الشروط والتعليقات والتعديلات لتطرحها على الطرف المقابل، وفي حال رفض الأخير كل أو جزء من هذه التعليقات والملاحظات تتهمه طهران بالعرقلة والتأخير والتسويف، علماً بأن مَن يريد ” يتغنج ” عليه أن يحسب كل احتمالات نتائج هذا الغنج، خصوصاً وأن طهران تدرك أنه، بقدر حاجة الأميركيين للاتفاق بقدر ما هي أيضا بحاجة الى نفس الاتفاق، وبالتالي أي عرض أو تعليق أو تعديل أو ملاحظة أو تحفّظ لا بد وأن يفترض رداً قد يكون سلبياً أو إيجابياً، ولكن بكل الأحوال حق الرد والتعليق والبحث في المقترحات والتعليقات من دون تحميل هذا الآخر مسؤولية ممارسته حقه بالبحث في المقترحات والتعديلات المقترحة.
إنها ديبلوماسية ” الوقاحة ” التي تمارسها طهران، فلها الحق بإبداء الملاحظات والمقترحات والتعديلات لكن ليس من حق الطرف الآخر مناقشتها وتعديل ما تقدمت به والا اتهمته طهران بالمماطلة والتأخير، فثقافة الحوار لدى إيران وحتى أتباعها في المنطقة وأذرعها هي دائماً ثقافة الحوار من طرف واحد، بمعنى التحاور على القبول بشروطها ومقترحاتها وتعديلاتها والرضوخ لما تريده هي بغلاف حواري ومظاهر تفاوض.
حرب البيانات والتصاريح المتبادلة بين الناطقين الرسميين الأميركي والإيراني استمرت خلال اليومين الأخيرين، وقد نفت واشنطن مقولة إنها تأخر التفاوض مشددةً على حقها في تفحّص الأجوبة الإيرانية، وإن نهاية التفحّص والتباحث حولها باتت قريبة.
في 26 تموز الماضي سلم جوزف بوريل مسوّدة الاتفاق النهائي للأطراف كافة، داعياً إياها للقبول بها لتجنب أزمة خطيرة كما قال يومها.
إستؤنفت المباحثات بتاريخ 4 آب الماضي في فيينا كمحاولة أخرى لإنقاذ الاتفاق النووي المبرم عام 2015 بين إيران من جهة والولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والصين وفرنسا وألمانيا وروسيا من جهة أخرى.
واللافت حالياً أنه على الرغم من توتّر العلاقات بين الولايات المتحدة وكل من روسيا والصين الا أن الدولتين قبلتا بالسير في الاتفاق النووي واستمرار تعاونهما من أجل إنجاحه بعد أن حاولت موسكو، وغداة اجتياحها أوكرانيا ووقوف واشنطن والأوروبيين ضدها بقوة داعمين كييف، التملّص من المفاوضات ومن الاتفاق النووي للضغط على الغرب والأميركيين، وها هي اليوم موسكو متحمسة مع الصين لإبرام الاتفاق النووي، وكأن كل دولة مشاركة في هذا الاتفاق تجد مصلحة في إبرامه بغض النظر عن الخلافات والعداء المستحكم.
فرنسا من خلال الرئيس إيمانويل ماكرون تحاول طمأنة إسرائيل بأن الاتفاق النووي سيأخذ بالاعتبار مصالح إسرائيل، وقد جاء ذلك في خلال اتصال هاتفي بين ماكرون ورئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد الذي عاد وأكد لماكرون أن إسرائيل سوف تقوم بكل ما يلزم لمنع إيران من امتلاك قدرات نووية.
تل أبيب تخشى من أن يؤدي أي اتفاق مع إيران الى رفع العقوبات الإقتصادية عنها، ما سيزيد من قدراتها المالية ومن إمكاناتها، بالتالي زيادة دعم ميليشياتها في المنطقة وعلى رأسها حزب الله في لبنان أو حماس في قطاع غزة.
هستيريا ديبلوماسية مستحكمة حالياً بانتظار تطورات الساعات أو الأيام القليلة المقبلة.