اليمين المتطرف في أوروبا : من مؤشرات سقوط النظام العالمي الحالي

Geert Wilders, leader of Dutch party PVV (Party for Freedom), Italy's Deputy Prime Minister Matteo Salvini, Marine Le Pen, leader of French National Rally party attend a major rally of European nationalist and far-right parties ahead of EU parliamentary elections in Milan, Italy May 18, 2019. REUTERS/Alessandro Garofalo

من السويد الى المجر الى بولندا فإيطاليا، ظاهرة صعود اليمين المتطرف تطرح أكثر من علامة استفهام حول الوجه السياسي الأوروبي المقبل في قارة تاريخها الغني وتراثها الحضاري يشهدان عبر العقود على حيويتها وتطورها الدائمَين، ولكن وفي نفس الوقت على أزماتها واختلافاتها وخلافاتها.ظاهرة اليمين المتطرف وصعود الشعّبوية في أميركا وأوروبا وعددٍ من دول العالم في آسيا وأميركا اللاتينية ظاهرة مقلقة جداً للنظام الدولي والسياسة العالمية في حقبة العولمة الحالية، ذلك أنّ اليمين المتطرف ارتبط عقائدياً بالدكتاتورية والقهر والصراعات والحروب ومعاداة العولمة الثقافية والإجتماعية.بالأمس، كان دور إيطاليا التي أفرزت انتخاباتها البرلمانية وصول اليمين المتطرف الى السلطة، لكن هذا اليمين متميز عن النظرة النمطية لليمين المتطرف الذي مثّله رئيس وزراء المجر فكتور أوربان الذي يبدو كالطائر الذي يغرد خارج سرب العائلة الأوروبية في موقفه من حرب أوكرانيا وقربه من الرئيس الروسي فلاديمير بواين، ورفض قطع علاقات المجر مع روسيا أو المشاركة في العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على موسكو نتيجة حربها في أوكرانيا.

كما كان متوقعاً، أسفرت الانتخابات الإيطالية عن فوز حزب “إخوة إيطاليا” (فراتيلي ديتاليا) في انتخابات الأحد، وستتولى إمرأة هي جيورجيا ميلوني زعيمة الحزب رئاسة الحكومة الإيطالية.

حزب إخوة إيطاليا “فراتيلي ديتاليا” الذي بقي في صفوف المعارضة في كل الحكومات المتعاقبة منذ الانتخابات التشريعية في العام 2018 بات هو نفسه اللاعب الأول وارتفعت حصته من الأصوات من 4,3 في المئة قبل 4 سنوات إلى نحو 24 % ليصبح بذلك الحزب الأول في إيطاليا.

حسب النتائج شبه النهائية، فقد فاز التحالف اليميني بزعامة حزب “إخوة إيطاليا” الذي تقوده جيورجيا ميلوني وتعود جذوره إلى “الفاشية الجديدة” بغالبية الأصوات وفق النتائج الأولية لأحزاب التحالف اليميني الثلاثة، فقد حصد الحزب أعلى نسبة أصوات في الانتخابات التشريعية بنحو 24.6%، ليحل بعده “حزب الرابطة” بنسبة 8.5 % وهو بقيادة ماتيو سالفيني، وحزب “فورزا إيطاليا” بزعامة سيلفيو برلسكوني الذي حصد 8 %، وبذلك يكون التحالف قد حصد أغلبية الأصوات بنسبة تقارب 43 بالمئة وهو ما يكفي لضمان السيطرة على غرفتي البرلمان.

ووفق المركز الإيطالي للدراسات الانتخابية، فإن حزب “إخوة إيطاليا” والرابطة الشمالية يكونان قد حصدا معاً، أعلى نسبة من الأصوات التي سجّلتها أحزاب اليمين المتطرف على الإطلاق في تاريخ أوروبا الغربية منذ العام 1945 ولغاية اللحظة.

في المبدأ، من المستبعد جداً أن تؤشر هذه النتائج الى عودة الفاشية الى إيطاليا، فهذا النصر التاريخي لليمين الإيطالي الجديد كان لمعاقبة الأحزاب التقليدية أكثر منه اقتناعاً بتوجهات اليمين المتشدّد وأفكاره، ولو أن للمنتصرين خلفيات فاشية كما بالنسبة للحزب الفائز.في اعتقادنا أن انتصار اليمين المتطرف في إيطاليا كان متوقعاً جداً في ظل الأزمات والسياسات الاقتصادية وحالة الغضب الشعبي في البلاد وعموم أوروبا، لكن المهم هنا ملاحظة أن هذه النتائج لا تعني توجّهاً نحو عودة الفاشية، بل هي تعبير عن “تصويت عقابي” من الإيطاليين للأحزاب التقليدية التي حكمت إيطاليا خلال السنوات الأخيرة، ولم تتمكن خلالها من إنقاذ البلاد من الأزمة الاقتصادية الخانقة، علماً أن إيطاليا تعاني من تفشي نسبة مرتفعة من البطالة ومن ارتفاع مؤشرات الركود الإقتصادي.

لم يكن لميلوني أن تنتصر في هذه الانتخابات لولا تحالفها مع كل من سيلفيو بيرلسكوني وماتيو سيلفيني، حيث لبيرلسكوني حيثية وطنية تاريخية في إيطاليا، وهو ما ساهم في دفع عجلة التصويت أكثر باتجاه ميلوني.

ما حصل بالطبع لا يقلل من احتمالية صعود اليمين المتطرف في عموم أوروبا من جراء ما حدث في إيطاليا، لكنه ليس خطراً كبيراً وداهماً، حيث أن الحركات اليمينية المتطرفة تصاعدت في أوروبا في العام 2016 من جراء موجات الهجرة الكبيرة في العام 2015 لكنها سرعان ما تراجعت بعد ذلك، فمثلاً حزب البديل صعد حينها في ألمانيا بل ووصل اليمين المتطرف الى السلطة في النمسا حينها وخرج منها بفضيحة، ولهذا فلا يمكن اعتبار نتائج انتخابات إيطاليا هذه “نقطة فارقة” في أوروبا.هذا الفوز لليمين المتطرف في إيطاليا حدث هام بلا أدنى شك لكنه لا يختصر كل المشهدية الإيطالية، إذ أن لليمين الإيطالي الوسطي وجود كبير راسخ في إيطاليا، وهو كان حاضراً دوماً وبشكل وازن على الساحة السياسية وحَكمَ البلاد لفترات طويلة، لكن مركزية اليمين الإيطالي اليوم انتقلت إلى حزب “إخوة إيطاليا” وهو حزب كان يُعتبر ناشئاً قبل هذا النصر الكبير، علماً أن اليمين لطالما كان يحقق النصر في مختلف الانتخابات الإيطالية، فيما اليسار كان يحكم غالباً عبر التكنوقراط خلال السنوات الأخيرة وليس عبر الانتخابات.رئيسة الحزب ميلوني هي طبعا يمينية وكاثوليكية محافظة لكنها ليست متطرفة، وهي كانت قد بادرت قبل الانتخابات بتوضيح مواقفها وسياساتها من مختلف الملفات الخارجية الداعمة لسياسات الإتحاد الأوروبي ووحدته، ودعم حلف الناتو وعضوية بلادها فيه، ودعم الموقف الغربي العام من روسيا والأزمة الأوكرانية، وبالتالي لا يُتوقع أن تغيّر في السياسة الإيطالية الخارجية وتحديداً الأوروبية بشيء، فالأزمات الإقتصادية والإجتماعية العالمية العاصفة تجعل الأولوية للمشكلات والقضايا الداخلية بالدرجة الأولى، ولا سيما خلال السباقات الانتخابية، وهذا ما يفسّر تركيز ميلوني في خطابها على قضايا الداخل الإيطالي، فمختلف حكومات العالم تسعى جاهدة الآن للبحث عن حلول لأزماتها الداخلية المتفاقمة على وقع التوترات والتحوّلات العالمية الراهنة.

انطلاقاً من هذا المعطى، فإننا نتوقّع أن تكون سياسات رئيسة الوزراء الإيطالية العتيدة الخارجية والدولية بعيدةً عن التطرف لا بل ستكون منسجمة مع عموم التوجهات الأوروبية والأطلسية، كما وأنه في قراءة سياسية داخلية للوضع الإيطالي يُلاحظ أن ما يعزّز من قوة ميلوني وعدم رضوخها للتوجهات المتطرفة لأقصى اليمين المتطرف، هو أن حزب “رابطة الشمال” لم يتمكن من حصد أصوات كبيرة، وبالتالي فرئيسة الوزراء الإيطالية القادمة غير ملزمة بإعطائه وزارات سيادية يمكن أن تؤثر على السياسات الاستراتيجية لحكومتها.

ميلوني معادية لدخول المهاجرين الى البلاد، وقد دعت لفرض حصار من القوات البحرية على ساحل البحر المتوسط في إفريقيا لمنع المهاجرين من الوصول إلى إيطاليا، كما أنها ترفض “نظام الكوتا” لتعزيز وجود المرأة في السياسة والأعمال، بحجة أنه يجب على النساء الإرتقاء إلى القمة بناءً على مهارتهن ومزاياهن الخاصة مثلها، ولا تملك ميلوني شهادة جامعية، وقد عملت في وظائف مختلفة بعد التخرّج من المدرسة مثل العمل في سوق شعبي ومربية للأطفال، وساقية في حانة، بينما استمرت بالخوض في النشاط السياسي اليميني في البلاد، وها هي تتزعم حزب “إخوة إيطاليا” الذي ظهر على الساحة السياسية قبل نحو عقدٍ من الزمن فقط، إثر الانقسام الذي حلّ بحزب “شعب الحرية” الذي تزعمه فيما مضى رئيس الوزراء الأسبق سيلفيو بيرلسكوني.

من الناحية السياسية، عرفت إيطاليا تاريخاً حافلاً من الاضطرابات السياسية والحكومات القصيرة، ومَن سيشغل منصب رئيس الوزراء المقبل سيرأس الحكومة رقم 68 منذ العام 1946 وسيواجه العديد من التحديات، خاصة ارتفاع تكلفة الطاقة على وقع الأزمة الأوكرانية.

العواصم الأوروبية وأسواق المال من جهتها تترقّب بقلق ما يحدث في إيطاليا في ظل الرغبة بالحفاظ على الوحدة في مواجهة روسيا والمخاوف من الديون الإيطالية الهائلة.في الواقع الجيو سياسي، يمكن القول إن سيرورة العولمة نجحت منذ القرن التاسع عشر في دمج البنى الاقتصادية والأسواق التجارية، ما أدى الى تفتّت البنى الإجتماعية والثقافية والسياسية للعالم، فيما يبدو اليوم أنّ نتائج وتأثيرات آليات العولمة الاجتماعية والثقافية والسياسية أكبر من نتائج آليات العولمة الإقتصادية.والمعلوم أن تصاعد اليمين المتطرف في أوروبا جاء تاريخياً على وقع الاستثمار في الخوف كالخوف من التطرف، ومن الإرهاب، ومن المهاجرين، ومن المنافسة الإقتصادية، والصراع على الهوية بفعل تجدّد موجات الهجرة واللجوء المعاصرتين واللغة والعادات والتقاليد والقيم، وقد تزامن صعود اليمين المتطرف في القارة الأوروبية مع تصاعد حدة الصراعات والحروب الأهلية الطاحنة في الشرق الأوسط مع اندلاع ما سُمّي “بالربيع العربي”، فضلا عن مشكلات اللجوء والهجرة ونمو “الإسلاموفوبيا” أي الخوف من المسلمين تحديداً وتصويرهم كمصدر محتمل للتطرف والإرهاب، وصولاً الى العنصرية ومعاداة السامية والمسلمين واليهود تحديداً.الانتخابات الإيطالية الأخيرة وقبلها الانتخابات السويدية والبولونية والمجرية، أتت كمؤشر في سياق مؤشرات تراكمية حول التحوّلات المجتمعية والاقتصادية والفكرية التي يجدر التوقف عندها وتحليل مسبباتها وكيفية مواجهتها، خاصة وأن الشعوب الأوروبية التي بنت واجهات التطور والتقدم والتحرر في النظام العالمي ما بعد الحرب العالمية الثانية تعاني حالياً، من خلال الظواهر المتطرفة الصاعدة في بعض دولها، من آثار المرحلة الانتقالية التي يعيشها العالم راهناً من أبواب أوكرانيا وتداعياتها الدولية، الى عمق الأزمات المتتالية وخطورتها.وكما كانت أوروبا بحركاتها الفكرية والثقافية وثورتها الإنسانية دعامة تحرّر العالم والشعوب فقد تكون في لحظة ما الدليل الساطع على أفول عالم قديم وتظهير ما يمكن أن يُبنى عليه من نظام عالمي لم يولد بعد وقد تتأخر ولادته.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: