في وقت يُسجِّل سعر برميل النفط أعلى قفزاته الى الآن، وفي الساعات الماضية، ما يؤكد تحكّم الرياض الكامل في أسواق النفط والتحكّم باتجاهات تلك الأسواق سلباً أم إيجاباً، برهنت المملكة العربية السعودية عن قدرتها على دفع الأسعار أكثر مما توقع الكثيرون ويمكنهم فعل ذلك بصورة دائمة.
تخفيض الإنتاج ل" تعطيش" سوق النفط
الرياض أثبتت خلال السنوات الماضية رغبتها في قدرتها على تحطيم الأسواق لمعاقبة المنافسين أو لإجبار إنتاج النفط المحلي على الانهيار .
والملاحَظ أن المملكة قامت بتخفيض إنتاجها بمعزل عن أوبيك وأوبيك بلاس " لتعطيش " السوق بمليون برميل يومياً، مع إمكانية أن يصل في نهاية السنة حجم تخفيض الإنتاج الى مليوني برميل يومياً.
المعلوم أن الأسواق تشهد راهناً عجزاً كبيراً، بحيث وصل العجز في إنتاج النفط خلال الربع الثالث من العام الجاري الى حدود مليونين وثلاثمائة ألف برميل يومياً.
عدم جدوى متابعة محادثات التطبيع
كل هذا النهج السعودي النفطي بقي الى الآن من دون اعتراض أميركي لكون واشنطن أعطت الأولوية للتطبيع السعودي- الإسرائيلي الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحقّق، إلا أن صحيفة "إيلاف" التي تصدر في لندن نشرت خبراُ مفاده بأن السعودية أوقفت المباحثات مع الولايات المتحدة الأميركية حول التطبيع مع إسرائيل بسبب تطرّف حكومة نتانياهو، وهو العاجز عن السيطرة على حكومته لإلزامها بأداء حقوق للفلسطينيين ودولة لهم، خصوصاً وزير الأمن الداخلي ايتمار بن غفير، وهو الأكثر تطرفاً في الحكومة ووزير المالية بيتسلايل سموتريتش الذي يرفض الاعتراف بدولة فلسطينية.
من هنا، رأت الرياض عدم جدوى متابعة المباحثات والتفاوض مع حكومة متطرّفة لا تريد القبول بشروط المملكة فكان قرار وقف المباحثات.
يُضاف الى ذلك سبب آخر دفع الرياض الى اتخاذ قرار وقف المباحثات وهو ما كشف عنه وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون دريمر لصحيفة "وول ستريت جورنال" عن حصول لقاء سرّي بين مسؤولين سعوديين وإسرائيليين.
تسريب سعودي متعمّد رداً على تصريح نتنياهو الكارثي
هذا التسريب الصادر عن وزير إسرائيلي أغاظ السعوديين وجاء لأذية السعودية، ما دفع بالرياض الى اتخاذ قرارها، هذا بما يتعلق بموضوع ما نشرته صحيفة إيلاف التي ضجت في الساعات القليلة الماضية بخبرها وسائل الإعلام العالمية كافةً.
إلا أن مَن يتعمّق في ما نُشر وتوقيته وظروفه يصل الى مجموعة خلاصات يمكن اختصارها بالآتي :
إيلاف استشهدت في خبرها بمصادر إسرائيلية داخلية، في حين لم تتكلم عن أي مصدر سعودي، ليتبيّن في الواقع ومن خلال تقاطع المعلومات من أكثر من مصدر أن ما نشرته إيلاف جاء بإيعاز سعودي رداً على تصريح بنيامين نتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي في السابع من آب الماضي لموقع "بلومبرغ" قلّل فيه من حقيقة اهتمام الرياض بحل القضية الفلسطينية، مشيراً الى أن ما تطالب به السعودية في العلن لا يعكس حقيقة اهتمام الرياض بالفلسطينيين، مشبّهاً الشرط السعودي حول إيجاد حل للقضية الفلسطينية بمثابة إشارة في مربع من مربعات فحص أو بالإنكليزية Check box، الأمر الذي أغضب الرياض لعدم صحة كلام نتانياهو، ما دفعها الى تسريب خبر وقف المباحثات حول التطبيع في إيلاف، وهكذا بات لافتاً أن نفس التقرير الذي استندت اليه صحيفة "تايمز أوف إزرايل" (Times of Israel) التي نفت فيه ما نشرته إيلاف تناول نفس التصريح الكارثي لنتانياهو الذي تسبّب بغضب الرياض، وبالتالي أرادت الرياض وبنفس أسلوب نشر تصريح نتانياهو أي عبر وسيلة إعلامية أجنبية هي بلومبرغ نشر خبر وقف محادثات التطبيع على وسيلة إعلامية أجنبية كبلومبرغ وهي إيلاف.
توقيت الرياض في موقفها الضاغط هذا على الأميركيين مهم جداً إذ يأتي عشية زيارة بنيامين نتانياهو الى الأمم المتحدة حيث سيشارك في افتتاح أعمال الجمعية العامة للمنظمة الدولية، بحيث من المتوقع أن يلتقي في الساعات المقبلة الرئيس الأميركي جو بايدن، ما يعني أن تقرير إيلاف في توقيت صدور الخبر هو جزء من محاولة سعودية ذكية لتنبيه بايدن الى أن هذه الفرصة الأخيرة له ليضغط على نتانياهو وجهاً لوجه بخصوص الفلسطينيين وقضيتهم.
السعودية بين التطبيع والرضى الفلسطيني عنه
الوقوف عند تسريب إيلاف اذاً مناورة ديبلوماسية إعلامية سعودية بالغة الدقة والذكاء، علماً أن مَن يراقب الأخبار وكل ما يُحكى عن تطبيع سعودي- إسرائيلي منذ بدء الكلام عنه لا يقع على أي خبر أو مسؤول سعودي أو وسيلة إعلامية سعودية تتحدث عن التطبيع، حتى أن الإعلام العربي عموماً لم يتناول الى الآن مسألة التطبيع السعودي مع إسرائيل، فمن يتكلم بكثافة عن التطبيع هو الإعلام الأجنبي ولذلك عندما أرادت الرياض الرد على نتانياهو في تصريحه الفضائحي لجأت الى صحيفة خارجية.
المملكة لا تزال منفتحة على التطبيع إنما أرادت إرسال تحذير الى حكومة نتانياهو من مغبة التطرّق الى موضوع فلسطين إن هي أرادت التطبيع، والرياض ملتزمة به سواء كان Check box أو غير ذلك، فالقضية الفلسطينية تبقى الأساس بالنسبة الى الرياض لأي تطبيع، وما قامت به في الآونة الأخيرة من إدخال الفلسطينيين في صلب عملية مباحثات التطبيع، سواء من خلال تعيين سفير سعودي غير مقيم في دولة فلسطين واستضافة الرياض للرئيس محمود عباس ثم استضافتها لوفد فلسطيني وجمعه بوفد أميركي رفيع المستوى مرسَل من واشنطن خصيصاً للبحث في الملف الفلسطيني، كلها خطوات تشير بوضوح الى أن الشرط السعودي المتمثّل بإيجاد حل للقضية الفلسطينية قبل أي تطبيع، والوقوف عند الرضى الفلسطيني على التطبيع المحتمل شرط أساسي وجدّي بالنسبة الى الرياض .
السعودية تُمسك بخيوط اللعبة بذكاء وتصميم
الأهم في كل هذا الآن هو الموقف الأميركي : فهل ستسمح واشنطن لنتاتياهو بإفشال مساعيها لإتمام التطبيع السعودي- الإسرائيلي، وهي التي وضعت رقبتها على المحك خصوصاً وأن سعر برميل النفط الذي تخطى في الساعات القليلة الماضية عتبة ال ٩٤ دولاراً لم يحرك الإحتجاج الأميركي خلافاً لمرات سابقة، حيث وصل الغضب الأميركي من السعوديين حد التخوين والتهديد بالقطيعة، علماً أن آخر إستطلاعات الرأي لشبكة "سي بي اس" نيوز أشارت منذ ساعات الى تأخر بايدن عن ترامب بأكثر من نقطة بسبب ما يراه الأميركيون من فشل إدارة بايدن في القضايا الاقتصادية للبلاد .
فالاستطلاع الأخير كشف عن أن المزيد من الأميركيين يثقون بأن الرئيس السابق دونالد ترامب قادر أكثر من بايدن على إصلاح الاقتصاد بهامش ٤٧%الى ٣٦% ،
وبالتالي ما نُشر في إيلاف هو بمثابة تحذير سعودي لبايدن وإدارته من مغبة تمادي نتانياهو في غطرسته ومن مغبة فشل محادثات التطبيع إن استمر التطرّف سيد الموقف في إسرائيل،
حتى أن رقبة نتنياهو نفسها على المحك، إذ لو فشل التطبيع فستكون عاقبته انتخابات مبكرة في إسرائيل ستطيح به وتنهي حياته السياسية.
إن اللعبة مشدودة والترقّب سيد الموقف بانتظار الساعات والإيام القليلة المقبلة، لكن الأكيد أن السعودية تُمسك بخيوط اللعبة بذكاء وتصميم وهي تحسن تماما توجيه بوصلة التطبيع بالاتجاه الصحيح .