يرجع مصطلح “البطة العرجاء” الى القرن الثامن عشر عندما استُخدم لوصف رجال الأعمال المفلسين في بريطانيا بإشارة الى الطائر المصاب، وقد استخدم هذا المصطلح عام 1830 لوصف الموظفين الذين يعملون خلال فترة انتهاء خدمتهم.وفقاً للتعبير الأميركي، ينطبق هذا المصطلح على الفترة التي يكون فيها الرئيس الأميركي “بطة عرجاء” بخسارته في الانتخابات البرلمانية أو في حال عدم قدرته على الترشّح مرة أخرى بعد انتهاء ولايته الثانية.
بالنسبة الينا يصح في كلام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مصطلح البطة العرجاء في الاتجاهين : الطائر المصاب الذي يتخبّط في خطابه المتكرّر والمنفصل عن الواقع، والإنسان الضعيف الذي خسر قدرته على إقناع المجتمع الدولي.
وبالعودة الى خطاب الوزير الروسي لافروف مساء أمس من على منبر الجمعية العامة يمكن تسجيل الآتي :
أولاً : لم يأتِ الوزير لافروف بأي معطى جديد حول حرب موسكو على أوكرانيا بل عاد وكرّر الخطاب الروسي الرسمي الذي يلقي على الغرب مسؤولية حرب بدأها هو على دولة سيدة عضو في الأمم المتحدة، ضارباً عرض الحائط بمبادىء ميثاق الأمم المتحدة وأهمها ضرورة الحل السلمي للأزمات الدولية واحترام سيادة الدول الأعضاء واستقلالها ووحدة أراضيها.الوزير لافروف وكأنه يبحث عن أسلوب الهروب الى الأمام في حديثه عن حرب بلاده على أوكرانيا، وهو يريد إلقاء التبعات على الدول التي تدعم الحق الطبيعي والدولي والقانوني لأوكرانيا بحماية سيادتها ورد العدوان عنها ورفض الاعتداء على سلامة أراضيها، فكما قالها الأمين العام للأمم المتحدة “الجيش الروسي هو الموجود داخل أراضي أوكرانيا وليس الجيش الأوكراني داخل الأراضي الروسية.
ثانياً : الوزير لافروف حاول في خطابه كما في أدبيات الكرملين وكامل الآلة الدعائية الروسية الإيحاء للشعب الروسي والرأي العام العالمي بوجود ” روسوفوبيا” أي كره لروسيا لدى الغرب، الأمر الذي تنفيه كل الوقائع وآخرها إعلان ألمانيا استعدادها لاستقبال المواطنين الروس الهاربين من التجنيد العسكري الإلزامي الجزئي الذي أعلنه الرئيس فلاديمير بوتين منذ أيام في خطابه الأخير.محاولة الخلط بين القيادة الروسية والشعب الروسي اذاً هي محاولة فاشلة لأن الغرب يكّن للشعب الروسي كل المودة والاحترام، وما عداءه الا للقيادة الروسية الحالية التي تريد الزج بروسيا في آتون حرب بلا أفق، الأمر الذي حمل عشرات ومئات من المواطنين الروس الى الهرب من بلادهم أو الى الاعتراض والتظاهر في عشرات المدن الروسية منذ يومين وحتى الساعة رفضاً لجعل الشباب الروسي والمواطن “طعماً بشرياً” للمدافع الروسية في حرب عبثية ومدمّرة،فلا روسوفوبيا في أوروبا ولا في الولايات المتحدة الأميركية حيث يجدر تذكير القيادة الروسية بمئات الروس اللاجئين سياسياً منذ سنوات والمقيمين في أوروبا والولايات المتحدة ودول أخرى حليفة للغرب،حيث استفادوا ويستفيدون من الحماية والحرية والحياة الكريمة.”الروسوفوب” الأول هو الذي يسلّم شعبه وجيشه لقتل مجاني على أراضي دولة أخرى ويعتدي بجيشه وأبنائه على سيادة وسلامة أراضي دولة جارة وصديقة تاريخياً لروسيا والشعب الروسي، متسبباً بنمو أحقاد وضغائن بين شعبين لطالما جمعتهما وحدة تاريخية، عداء باتت الأجيال ستتوارثه مستقبلاً لقاء ماذا ؟ لا شيء.لذلك يجب على موسكو أن تتوقف عن الخلط بين الدولة والشعب الروسي ووقف هذه الحملات الدعائية المشبوهة والمشوِهة للحقيقة وللرأي العام الروسي.
ثالثاً : الوزير لافروف أعاد تكرار اتهام الغرب بالإجرام والعدائية فيما في الحقيقة هي أن سياسات موسكو تجاه أوكرانيا منذ العام 2014 لم تكن أقل إجراماً وعدائيةً، واذا كانت موسكو تعيّر الغرب بإجرامه في حق دول وشعوب في المنطقة، فالصحيح أيضاً أن سياسات روسيا في سوريا مثلاً من قمع وقتل لشعب أراد الحرية وتغيير نظامه السفاح لا يجعل الركون لروسيا أكثر أماناً، علماً أن الغرب ارتكب خطأ فادحاً ومميتاً بسكوته عام 2014 على ضم جزيرة القرم بدل الوقوف كما يقف اليوم دون انتهاك دولة سيدة ومستقلة وانتهاك أراضيها.سكوت الغرب هو الذي شجع موسكو والرئيس بوتين على المضي بعد 8 أعوام على غزو الدونباس ومناطق أوكرانيا الجنوبية وصولاً الى استباحتها واحتلالها وتنظيم “استفتاء صوري” غير شرعي تمهيداً لضمها الى الاتحاد الروسي، لا لشيء سوا إحياءً لعقيدة سوفياتية بائتة باستعادة مساحات الإمبراطورية السوفياتية التي انهارت والتي اعتبر الرئيس بوتين نفسه انهيارها بمثابة أكبر كارثة جيو سياسية في القرن الماضي.والأدهى أن القيادة الروسية لا تسأل نفسها للحظة حول النموذج الفوضوي الذي تعرضه على العالم من عدوانها على دولة سيدة ومستقلة، ذاك النموذج الذي اذا تعمم سيؤدي لا محالة الى سقوط العالم في فوضى دولية مدمّرة وحرب عالمية تقضي على البشرية والأمن والسلام والاستقرار، عندما ستتشجع كل دولة لها مطالب أو عقيدة ما تجاه جارتها الصغرى في الانقضاض عليها وحذو حذو روسيا الإتحادية بحجة من هنا وحجة من هنالك … فأي نموذج تقدمه اليوم القيادة الروسية في غزوها دولة جارة لها؟
رابعاً : الوزير لافروف في خطابه استعاد الأدبيات الدعائية والمواقف الرسمية الروسية بتعمّد قلب الحقائق بشكل دراماتكي لإظهار المعتدي على أنه ضحية والضحية على أنها المعتدية.روسيا ومنذ اليوم الأول لغزوها والى الآن تعتبر ما يحصل في أوكرانيا بأنه عملية خاصة، فاذا بالرئيس بوتين يلجأ الى التجنيد والتعبئة الجزئية، ومنذ بداية الغزو تعتبر موسكو أنها تحارب النازيين في أوكرانيا، وقد تبين بعد سبعة أشهر عدم وجود نازية في أوكرانيا، كما أن موسكو كانت قد أشارت الى تقدير زمني بأسابيع لإنهاء مهمتها وها هي تدخل الشهر الثامن والحرب مستمرة ومرشحة لمزيد من التصعيد والآطالة في الوقت.الوزير لافروف عكسَ الرؤية البوتينية السائدة منذ سنوات لدى قيادة الكرملين في النظرة الى العالم البديل أو النظام العالمي البديل الرافض للأُحادية الغربية والزعامة الأميركية للعالم، فيما البارانويا تتحكم بنظرة القيادة الروسية الى العالم انطلاقاً من اعتقاد راسخ في العقل الباطني للقيادة في موسكو بوجود مؤامرة كونية على روسيا.الوزير لافروف في كلمته حاول اللعب على وتر الدول التي لا توافق لا بل التي لديها تحفظات وعداوات مع الغرب من خلال إظهار النموذج الروسي في السياسة الخارجية على أنه البديل الآخر للسيطرة والطغيان الغربي الأميركي وبأن روسيا والدول الأخرى قادرة على مخاطبة والتعامل مع دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة بندّية ومساواة.ومن هنا جاء اتهام لافروف للدول الأوروبية بالخضوع للأميركيين، علماً أن روسيا نفسها تتباهى بخضوع دول الطوق السوفياتي السابق للسيطرة والتأثير الروسي كما كازاخستان وأوزبكستان وطاجكستان وقرغيزستان وأذربدجيان وسواها.روسيا تحاول إظهار المشهد الدولي على أنه منقسم بين مَن هم الى جانب الغرب والولايات المتحدة وبين الدول المناهضة وعلى رأسها روسيا.
خامساً : في كلمته، أرسى لافروف معادلة واضحة بالنسبة لموسكو هي أن الاستفتاء يؤدي الى ضم الأراضي وأي اعتداء على تلك الأراضي بعد ضمها يُعتبر اعتداءً على أراضٍ روسية، ما يتيح لموسكو استخدام الوسائل والأسلحة كافة بما فيها ربما السلاح النووي لردع الاعتداء،لذا أتت كلمته أمس لتأكيد المؤكد وهو قرار موسكو بالاستمرار في الحرب مهما كانت الكلفة الى أن يتحقق انتصار ما انطلاقاً من نظرة الرئيس بوتين العقائدية والدعائية والأهداف التي حددها لنفسه.