يشهد الوضع السياسي الفرنسي الداخلي منذ أشهر تجاذبات حادة وانقساماً كبيراً بين مختلف القوى السياسية والأحزاب الاساسية، من أقصى اليمين الى أقصى اليسار، حول مشروع قانون تعديل سنّ التقاعد ورفعه الى ٦٤ عاماً.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحكومته يعتبران هذا المشروع حيوياً وأساسياً للولاية الرئاسية الثانية، وحجتهما في الدفع باتجاه إقراره أن السنّ المعدّلة ستتيح للفرنسيين مزيداً من الإنتاج وبالتالي المزيد من تدفق الثروات، ما سيغني صناديق التقاعد وخزينة الدولة التي تعاني من عجز كبير في الاستمرار بتغطية تكاليف التقاعد.
ولمواجهة هذا المشروع، وقفت أحزاب اليسار واليسار المتطرّف مثل اتحاد أحزاب اليسار nupes بزعامة جان لوك ميلانشون وحزب التجمّع الوطني بزعامة مارين لوبين، وكتلة النواب المستقلين مثل تجمّع Liot وقوى برلمانية وحزبية في الوسط، سدّاً منيعاً ضد إقرار المشروع فيما التهب الشارع منذ أسابيع وحتى الساعة بمظاهرات وأعمال شغب شعبية يومية، في الوقت الذي قررت فيه اتحادات العمال في مختلف قطاعات الإنتاج وقف العمل وإقفال البلاد بحيث تعطّل الإنتاج حتى الآن في ٨٩ % من قطاعي الاقتصاد والتجارة، كما طال الشلل عمال النظافة العامة، ما أدى الى تراكم النفايات في الحاويات في المناطق الفرنسية الكبرى.
حزب الجمهوريين les Républicains الذي هو بطبيعة تكوينه حزب السلطة وقد أوصل على التوالي الرئيس الراحل جاك شيراك والرئيس نيكولا ساركوزي ورؤساء حكومات ووزراء في العقود الأربعة الاخيرة، إنقسم على نفسه بين نواب مؤيدين للمشروع الذي يُعتبر مشروع اليمين التاريخي بتعديل سن التقاعد، وبين معارض له لم يستطع حتى الساعة توحيد موقف كتلته البرلمانية، وهو يعيش حالياً فترة انقسام بين أكثرية داعمة داخل صفوفه للمشروع وأخرى معارضة، والمعارضون في معظمهم من الوجوه الجمهورية الجديدة المنتخَبة في الأرياف والذين عادة ما يكونون متأثرين بتوجهات ناخبيهم الرافضين للمشروع.
مساء الخميس، إنفجر الوضع السياسي في فرنسا بصورة دراماتيكية عندما قرّرت حكومة ماكرون التي ترأسها اليزابيت بورن، وبعد يوم طويل من الاتصالات والاجتماعات والضغوط على الكتل البرلمانية الحليفة لمحاولة توحيد صفوفها الى جانب كتلة الأكثرية الماكرونية في البرلمان والتي تحتاج الى انضمام كتلة الجمهوريين المنقسمة لتمكنها من التصويت على المشروع في الجلسة المسائية وإقرار القانون بالنصاب الدستوري المطلوب، اللجوء الى المادة ٤٩/ فقرة ٣ من دستور الجمهورية الخامسة التي تجيز للحكومة اعتبار القانون بمرسوم تشريعي حكومي نافذاً بغض النظر عن تصويت البرلمان، ما أدى الى عقد جلسة برلمانية في الجمعية العمومية الفرنسية منعت رئيسة الوزراء بورن في بادىء الأمر من إلقاء خطاب قرار اللجوء الى المادة المذكورة وتفعيلها، بإثارة موجة احتجاجات ورفع لافتات التنديد بقرار الحكومة، ثم بالصراخ والاحتجاجات الصاخبة والضرب على الطاولات من جانب الكتل المعارضة اليسارية والشيوعية والاشتراكية، بالإضافة الى كتل البيئة واليمين المتطرّف، ومن ثم وبعد دقائق وفي ظل استمرار الهرج والمرج، عادت بورن الى المنصة وألقت خطابها بصوتٍ عال للتغطية على الصراخ والصخب من صفوف النواب المعارضين والساخطين، معلنةً لجوء الحكومة لأعمال أحكام المادة ٤٩/ الفقرة ٣ فانفجر الشارع على الأثر وأصدرت الأحزاب والكتل والنقابات والاتحادات العمالية كافة بيانات الرفض والاستنكار، ونزلت الناس وقياداتها المعارضة الى الشوارع في مشهد ثورة لم تشهدها فرنسا منذ ١٩٦٨ أيام مشروع الرئيس الراحل شارل ديغول.
فرنسا الآن في عنق زجاجة أزمة حكم وتمثيل ديمقراطي قلّ نظيرهما في التاريخ الحديث، وأزمة إجتماعية ديمقراطية، والمشهد مرتبك وخطير وقد يطيح ما حصل بحكومة اليزابيت بورن التي قبلت بأن تغطي الرئيس ماكرون وتتلقّى مع حكومتها سهام التصويب على ماكرون الذي بات ٧٩ % من الشعب الفرنسي يتهمه بالدكتاتورية والعناد والابتعاد عن الشعب الذي، وبأكثرية ٧٠% بحسب كل الاستطلاعات، يرفض قانون تمديد سن التقاعد.
