في الجيو سياسة، كل ظاهرة سياسية مرتبطة بمجموعة أكبر من الظواهر فلا مجال للصِدَف ولا للمواءمة، إذ تأتي الأحداث متكاملة متتالية ومترابطة بحيث يكون اجتزاء حدث من سياقه العام خطأ يودي الى حسابات خاطئة، وبالتالي رهانات خاطئة.
من هذا المنطلق، لا يجب تناول حدث ما مثل ظاهرة دعوة سفارات في لبنان لرعاياها بمغادرة البلاد كحدثٍ محصور ومنفصلٍ عن سياق أحداث قد تبدأ من أدغال أفريقيا ولا تنتهي بمضيق تايوان.
ظاهرة دعوة السفارات السعودية والكويتية والبحرينية لرعاياها مرتبطة بحدثٍ دراماتيكي ضخم وخطير مرتقب ليس بالضرورة في لبنان، بل ربما وعلى الأرجح في المنطقة قد يكون له تداعياته على لبنان والوضع فيه .
في مراجعة سريعة للمشهد الجيو سياسي الإقليمي، نلاحظ الآتي :
١- توتّر سعودي- كويتي- إيراني في موضوع حقل الدرة وتهديد سعودي واضح بمنع طهران من أن يكون لها أي حصة في الحقل، وهو موقف بحد ذاته يطرح مصير اتفاق بكين بين الرياض وطهران على بساط السقوط، فالامور قد تصل قريباً الى حافة حرب ومواجهة مباشرة بين الرياض والكويت من جهة وطهران من جهة ثانية، خصوصاً في ظل معلومات حول هجوم عسكري إيراني على الكويت.
٢- توقّف التطبيع الخليجي مع بشار الأسد، وقد سرّبت أوساط موالية ومقرّبة من السعودية ودول الخليج معلومات عن سبب التوقّف، ليس أقلها عدم التزام الأسد بما اتفق عليه، وبمبدأ خطوة مقابل خطوة، فالأسد غير ملتزم وغير قادر على الالتزام لأنه يخضع لضغوط إيرانية، وهو بحاجة الى طهران لبيع آخر ممتلكات ومقدّرات الشعب السوري والدولة السورية بعدما تقطّعت به السبل، فلا العرب ولا الخليجيين أرسلوا له المال، ولا روسيا قادرة على مساعدته مالياً، فلم يبقَ أمامه سوى الإيرانيين الذين يشترون منه كل شيء لتعرية الدولة والشعب السوري من كل ما يمكن يوماً أن يساهم في إعادة بناء سوريا.
الأسد بات واقعاً بين ضغط الشارع العلوي المتزايد عليه والنقمة المتصاعدة مع تردّي الأوضاع المعيشية والمالية والاقتصادية واستفحال الفقر والحرمان في مناطق سيطرته، وبين تخلّي الأصدقاء والحلفاء عنه، وهم في الأساس قليلون اذا احتسبنا الروس والإيرانيين.
٣- تصاعد التوتّر الأمني والعسكري على أرض سوريا بين أميركا وروسيا، وبين تركيا والنظام السوري، وبين شرق الفرات وغربه، ونحن على قاب قوسين أو أدنى من حصول تطورات كبيرة وكبيرة جداً في الشمال السوري، ترافقه تطورات عسكرية ضاغطة شرقي سوريا، وصولاً الى الجنوب السوري حيث يصبح نظام الأسد محاصَراً حتى الموت والاختناق ما لم تنفجر في وجهه ثورة حاضنته الشعبية عليه وعلى عائلته، فكيف يمكن بعد كل هذه المشهدية أن يتفاجأ المرء من إقدام سفارات كالسعودية والبحرين والكويت على طلب مغادرة رعاياها لبنان ؟ تصاعد التوتّر المفضي الى مواجهة عسكرية مباشرة بين الرياض والكويت وطهران في المنطقة على خلفية أزمة حقل الدرة سيؤدي الى تنامي العداء مجدّداً في لبنان ضد المملكة والكويت والبحرين من قبل جماعة إيران وميليشياتها وفي طليعتهم حزب الله.
في المقابل، إن قطع التطبيع العربي والخليجي مع الأسد ونظامه في سوريا سيؤدي وهو بدأ فعلاً الى تزايد النقمة والغضب الأسدي ومَن لفّ لفيفه في لبنان ضد الرياض والكويت والبحرين والإمارات وسواها من دول المنطقة التي راهن عليها بشار الأسد وعلى انحنائها أمامه في جدّة حيث خرج بعدها خالي الوفاض ووصل الى مأزق الاختناق الكلي.
يُضاف الى كل ذلك القرار الإيراني بإحكام القبضة على الملف الفلسطيني في لبنان بعدما خرج الملف في فلسطين ولو جزئياً من قبضتها وبخاصة في الضفة الغربية، بحيث تريد طهران تعزيز أوراقها التفاوضية بالإمساك بملف الفلسطينيين في لبنان.
من هنا، فإن الوضع الجيو سياسي في المنطقة متقلّب وعاصف تتقاذفه التطورات الدراماتيكية المتسارعة بين ساعة وساعة، حيث لن يبقى بمنأى عنها وعن تداعياتها أي بلد في المنطقة وخصوصاً لبنان، فهل نتخيّل مثلاً أن يترك حزب الله وإيران بشار الأسد يسقط بسهولة؟ طبعاً لا لأن سقوط الأسد هو نهاية مشروع التشيّع وتصدير الثورة ومهاجمة دول الخليج وحكامهم وعائلاتهم.
وهل نتخيّل أن يترك الروس الحلف الذي تقوده أميركا في شمال شرق الفرات يضرب شرقي الفرات ويحاصر مناطق الأسد من دون أن يتحرّك لحماية الأسد، ولو كلّف موسكو ذلك مواجهة مباشرة مع الأميركيين؟
وهل نتخيّل ولو للحظة أن الأتراك سيتركون نظام الأسد يبسط سلطته على مناطق تعتبرها أنقرة جيو سياسياً مناطق حساسة وخطيرة لأمنها القومي، وقد تذهب الى حد شنّ عمليات عسكرية في مناطق سيطرة النظام خصوصاً بعدما تراجعت همّة أردوغان في ملاقاة الأسد الرافض لأي لقاءٍ قبل انسحاب الجيش التركي من سوريا؟
وهل نتخيّل للحظة أن يبادر الحوثي في ظل اشتداد التأزم بين الرياض وطهران حول حقل الدرة الى الصلاة للسعودية ومدنها وعدم إشعال الجبهة اليمنية في مواجهة الرياض ورميها مجدداً بالصواريخ والمسيّرات؟
وبعد كل هذا نسأل ونتعجّب من طلب السفارات لرعاياها مغادرة لبنان ؟
إنه أمر بديهي يُنذر بما لن يكون بديهياً، وبخاصة على خطي مواجهة إقليمية مع إيران : في الإقليم مع حقل الدرة وفي لبنان مع التمدّد الإيراني الذي غزى المخيمات الفلسطينية.
وعليه، هل تتحوّل مخيمات النازحين السوريين جزءاً من استراتيجية المواجهة العسكرية المقبلة في المنطقة ولبنان؟
إنسداد التسوية وغياب الحلول السياسية في المنطقة، فالمسار التسووي العربي الخليجي في المنطقة بين إيران وسوريا فشل، وقد طفت على سطح الأحداث خلافات كبيرة في المنطقة وتبادل اتهامات لتحميل كل طرف الآخر سبب الفشل، هذا الانسداد الكبير سيعطي مكانه للانفجار الكبير في المنطقة، وقد تُرجمت بمواجهة مناورات حلفاء واشنطن في سوريا الشمالية وفي ردّ على تركيا مناورات عسكرية ليلية لاول مرة في سوريا بدعم ومشاركة روسية وإيرانية، ومواجهة تركيا أيضاً عسكرياُ من قبل النظام وروسيا بعد سقوط منصة آستانا وتفرّق العشاق وعودة أنقرة الناتو على الساحات الإقليمية.
إعادة توزيع مناطق النفوذ في سوريا سيدة المواقف وعملية خلط أوراق جديدة في المنطقة على نار حامية، والتطورات ستحصل في ربع الساعة الأخيرة و ستفجّر الوضع الإقليمي برمّته لأن إيران لا ثقة معها لا بعهودٍ ولا بوعودٍ .