لا ندري من أين يستقي بعض الجهات السياسية والإعلامية بمعطياتها لرسم مشهديات إقليمية ترجّح كفّة محور الممانعة على كفّة الخصوم، في وقت تشير كل المعطيات الى معادلات عكسية خاصة بالشأن السوري.
إستفاد بعض اللبنانيين " المتسورنين " (أتباع نظام الأسد) من نكبة زلزال شمال سوريا الأخير ليزوروا حاكم دمشق المنعزل بشار الأسد في محاولة لجرّ لبنان الى إعادة التطبيع مع هذا النظام. متجاهلين حقيقة أن هذا النظام لم يعد يملك زمام مصيره، فكيف بامتلاك زمام مصير الآخرين من خارج الحدود.
الحقيقة أن سوريا اليوم، عشية تغييرات جذرية تتشكل عناصرها مع اشتداد المواجهة في أوكرانيا وحاجة موسكو والرئيس بوتين الى خلفية جيو استراتيجية روسية في مواجهة دول الناتو أو الخليفة مع الناتو في المنطقة، بدءاً من إسرائيل يرسي من خلالها توازنه الجيو سياسي بين ورقة أوكرانيا وورقة سوريا.
ليس سراً أن قلنا إن في استراتيجية الكرملين مصالح روسيا الحيوية في وجودها وتأثيرها تمتد من كييف الى دمشق، ومن هنا أهمية المحورَين الروسي- التركي -السوري والإيراني- السوري- الروسي.
على المحور الأول، أي الروسي- التركي- السوري جاءت مبادرة الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الأخيرة بالانفتاح على بشار الأسد من باب المصلحة الروسية- التركية- الإيرانية في مواجهة أي تطبيع عربي مع الأسد لإخراجه من تحت العباءة الإيرانية الروسية وضمه الى العباءة العربية، لكن زلزال إنطاكية وتداعياته حلّ ضمن أولويات الرئيس التركي، وترك بالتالي ساحة مقاومة التطبيع العربي الى كل من روسيا وإيران.
وهنا يأتي دور المحور الثاني الروسي- الإيراني- السوري حيث تتصرف موسكو في سوريا خلافاً لمصالح العرب الذين تدّعي صداقتهم، إذ كيف يُعقل أن تكون روسيا صديقة دول الخليج والعرب وتقوّي في الوقت عينه "شوكة" إيران في سوريا ومن خلالها في المنطقة لقاء خدمات التحالف الإيراني معها في حرب أوكرانيا؟
من هنا أهمية النظر الى الدور العربي الذي يواجه رفضاً روسياً وإيرانياً وسورياً داخلياً من قلب نظام الأسد، اذ ان أي عودة لسوريا الى الحضن العربي تفترض سلفاً تنازلها عن تحالفها مع إيران، وبالتالي ضرب التحالف مع روسيا بعدما باتت مصالح موسكو وطهران شبه متعاضدة ضد الغرب وحلفائه في المنطقة.
من هنا، فإن الوضع في سوريا اليوم بين "فكي كماشة"، جماعة مور الممانعة والروس والطرف العربي الساعي الى استعادة سوريا وانتزاعها من الأخطبوط الإيراني الروسي الذي يسعى لابتلاعها.
روسيا التي تعاني من هزيمة استراتيجية مع دخول الحرب في أوكرانيا عامها الثاني تواجه خطر انسحابها من أوكرانيا بنهاية المطاف في مقابل خطر انسحابها أيضاً من سوريا هي وإيران تمهيداً لقيام نظام إقليمي حليف للغرب ينهي الخطر الإيراني المسلط على الدول في المنطقة.
الولايات المتحدة تعتبر أن أي تهديد لأمن أي دولة شريكة لها في المنطقة هو تهديد لأمنها القومي، ما يعني أن إسرائيل أولى تلك الدول الشريكة التي سيتعيّن على الولايات المتحدة الدفاع عنها فضلاً عن الشركاء الخليجيين في وجه أي خطر إيراني.
منذ يومين، إعتبرت الخارجية الأميركية أن الشراكة الإيرانية- الروسية تشكل تهديداً لجيران إيران في المنطقة، وتتهم روسيا باستخدام المسيّرات الإيرانية لضرب البنية التحتية في أوكرانيا، ما يؤشر الى اتجاه التصعيد الغربي والإقليمي ضد إيران نحو المزيد من المحاصرة السياسية والإعلامية والضغوط الخارجية لعزل نظام طهران وتفكيك الشراكة مع الرئيس بوتين في المنطقة كما في أوكرانيا.
ساحة الصراع المستعر ستكون في سوريا حيث العنصر الإيراني المسيطر وحيث يُتوقع أن تهزم إيران بالتوازي مع خسارة روسيا حربها في أوكرانيا من حيث أهدافها المعلنة والتي لم تتوصل الى تحقيقها الى الآن.
التحالف بين بشار الأسد وحزب الله وإيران وروسيا قائم لكن في مواجهة خاسرة مع دول المنطقة من الخليج الى إسرائيل، إذ ان إسرائيل والولايات المتحدة لن تسلمان سوريا لإيران وإسرائيل مضطرةً حتى ولو واجهت رفضاً روسياً وصداماً بينهما الى مواجهة موسكو.
وقد فتحت إسرائيل عبر زيارة وزير خارجيتها الى كييف مؤخراً باب التعاون العسكري وصولاً الى تزويد كييف بأسلحة جوية متقدّمة ودقيقة بموازاة رفض واشنطن الميليشيات الإيرانية على أبواب إسرائيل، فهي أيضاً ترفض عودة داعش وتواجده برعاية إيرانية متجدّدة .
من هنا، فإن الحلف الروسي- الإيراني هو الهدف التالي للمحور الأميركي- الإسرائيلي- العربي وإصابة الهدف تعني ضرب سوريا وتخسر روسيا علاقاتها مع كل من العرب وإسرائيل ثمناً لشراكتها مع إيران.
روسيا خسرت في المنطقة بتحالفها مع إيران التي ستدفع ثمن هذا التحالف أولاً ومسرح تصفية الحسابات مع العرب وإسرائيل سيكون سوريا، فلا بد من ضرب البرنامج النووي الإيراني وإقصاء الوجود الإيراني من سوريا في آن .
بحسب صحيفة نيو يورك تايمز فإن الحرس الثوري استثمر في السنوات الأخيرة الماضية مبالغ طائلة لبناء شبكة دفاع جوي في سوريا استعداداً للمواجهة الكبرى.
عام ٢٠١٥ أدخل قاسم سليماني الروسي الى سوريا، واليوم عام ٢٠٢٣ إيران ستستعين مجدداً بالروس في سوريا لكن وفق قواعد اشتباك مختلفة عن سابقاتها لن تمكّن روسيا من فرض إرادتها مع تفكك المصالح المتقاطعة بين موسكو وإسرائيل والولايات الأميركية كما كانت عليه في العام ٢٠١٥.
تحوّل ميزان القوى في سوريا يُنذر بانفجار كبير يطيح نهائياً بأوراق محور إيران- روسيا انطلاقاً من سوريا على وقع إعادة تشكل نظام إقليمي جديد، فسوريا هي نسخة عربية إقليمية لأوكرانيا ومعادلاتها وتوازن القوى فيها وحواليها، والمواجهة فيها آتية على قدم وساق.
