يصح القول إن الشمال السوري على الحدود مع تركيا من أكثر المناطق حساسية في المنطقة في الوقت الحالي، لكونها منطقة تماس مباشر بين القوى الإقليمية والدولية المتصارعة أو المتحالفة بين المعسكرين الشرقي والغربي في أوكرانيا، والأكثر تأثراً بتداعيات الصراع الدولي الدائر .
ففي الشمال السوري، تركيا بين فكي كماشة : روسيا الداعمة للأسد ومناوراتها العسكرية الكبيرة في القامشلى من جهة، والولايات المتحدة الداعمة للأكراد، والتي أبدت أنقرة خيبة أملها من مثل هذا الدعم.
هدف تركيا طرد المقاتلين الأكراد المدعومين من الولايات المتحدة، هذا في الظاهر، فيما روسيا وفي عز صراعها في أوكرانيا في وجه الغرب تحشد عسكرياً (٥٠٠ جندي من المظليين الروس) لمنع المسلحين المحسوبين على تركيا من التمدّد الى الداخل السوري.
في الظاهر، قد يحملنا هذا المشهد الى استنتاج أن ثمة مواجهة تنحصر بين أنقرة وموسكو في الشمال السوري، لكن في الحقيقة ثمة تعقيدات كبيرة تفوق المنظور وتنسحب على مجمل حسابات المشهدية الدولية المتشنجة.
إيران تتوسط بلا جدوى بين أنقرة ودمشق لمحاولة جرّ تركيا من جهة الى الإعتراف بنظام بشار الاسد، ومن جهة أخرى الى إرساء تفاهمات تجنّب سوريا خضاتٍ عسكرية في هذه المرحلة الدقيقة من حياة محور الممانعة.
بالمقابل، هناك انقسامات بين المجموعات الكردية نفسها حول القبول بالانفتاح على الأسد أو رفضه.
كلها رسائل متضاربة، بعضها يوحي بانسداد أفق العملية العسكرية التركية، وبعضها الآخر يشير الى اقتراب ساعتها.
ثمة سباق محموم بين الديبلوماسية ولغة التفاهمات السياسية باتجاه إقناع أنقرة بالتراجع عن عمليتها المنوي تنفيذها في الشمال السوري، في مقابل الإستجابة لبعض من شروطها، وبين التصعيد العسكري
وبين أجواء أنقرة التي تؤكد على حتمية العملية بمجرد الانتهاء من التجهيز العسكري واللوجستي، الا اذا حصلت تركيا على ما تريده.
فماذا تريد أنقرة من الشمال السوري؟
تركيا تعتبر أن ثمة تعهداتٍ قُطعت لها في تشرين الأول ٢٠١٩ من قبل موسكو وواشنطن باتجاه سحب مجموعات قسد ( قوات سوريا الديمقراطية ) بعيداً عن الحدود التركية حوالي ٣٠ كلم، لكن هذه التعهدات لم يتم الإلتزام بها من الراعيَين الكبيرين، لذا قرّرت أنقرة شنّ عملية عسكرية لإبعاد هذه المجوعات عن حدودها، وحسم موضوع العلاقة بين قسد والولايات المتحدة الأميركية لجهة السلاح والدعم لهذه المجموعات، كما أنها تريد إخراج ملف داعش من أيدي الابتزاز الذي تمارسه قسد عليها، كما أنها تريد أيضاً تسريع ملف التسوية السورية.
بين هذا وذاك، يُلاحظ التناقض في الموقف الروسي بالمقارنة بين سوريا وأوكرانيا، إذ ففي حين تبيح موسكو لنفسها الإعتداء المباشر عسكرياً على السيادة الأوكرانية، اذا بها تقف سداً منيعاً في سوريا لمنع أي اعتداء على سيادة سوريا، وتهديد حليفها بشار الأسد،
علماً أن روسيا لا تريد الدخول في مواجهة عسكرية مع تركيا.
من جهتها، فوجئت أنقرة بالتدخّل الروسي على خط شمال سوريا وإصرار موسكو على التقريب بين النظام السوري ومجموعات قسد الكردية، ما ينمّ عن انزعاج روسي من مواقف تركيا المتحوّلة عنها في الملف الأوكراني منذ قمة شمال الأطلسي الأخيرة، والتي قبلت فيها أنقرة انضمام فنلندا والسويد، ما خيّب أمل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الاتراك.
فهل يُعتبر تدخل الروس المباشر ميدانياً في القامشلي وجهاً من أوجه الردّ على تركيا لموقفها في قمة الأطلسي بمزيد من التشدّد في رفض العملية العسكرية التركية على شمال سوريا؟
اللافت من جهة أخرى، أن ثمة تقاطع روسي- إيراني- أميركي على لعب ورقة قسد ضد تركيا من خلال توفير تلك الدول الحماية لهذه المجموعات المحسوبة في المبدأ على الجانب الأميركي.
النظام السوري من جهته يرسل مزيداً من قواته الى الشمال الحدودي مع تركيا، في وقت تعجز فيه إيران عن فتح حوار بين أنقرة وبشار الأسد نظراً للموقف التركي من النظام في دمشق،
وهكذا نلاحظ التشابك الكبير في المصالح الدولية على أرض سوريا وبالأخص شمال سوريا الحدودي وتقاطعها وتصارعها في آن، ما يعني أن المنطقة على محك تبادل الرسائل التي قد تبرد أو تسخن في سباق مع الوقت بين الديبلوماسية وبين التصعيد العسكري.
ما هو أكيد أن تركيا ستقدم على الهجوم حال اعتبارها أن أمنها القومي مهدد، ما سينعكس على منصة أستانا في الملف السوري برمّته، خاصة لجهة مسار التسوية السلمية في سوريا لأن انفجاراً عسكرياً في الشمال السوري قد يؤدي الى زعزعة الأمن السوري برمّته، وفتح المجال أمام إعادة إنتاج مواجهات داخلية في سوريا، مع استيقاظ مجموعات ثورية وموالية لأنقرة أو مدعومة من الأميركيين لهز المكاسب الروسية في سوريا، وإرسال رسالة أميركية نارية تحذيرية الى إيران تتقاطع مع تعثّر مفاوضات الملف النووي.