رُبّ ضارةٍ نافعة كما يقول المثل الشعبي المتداول، بهذا نبدأ هذه الأسطر لنشير بداية الى استهجاننا وسخطنا على مجزرة المستشفى المعمداني في غزة منذ يومين، هذان الاستهجان السخط اللذان لا يمنعاننا من تحليل المعطيات ورؤية الحقائق الجيو سياسية بالمنظار العلمي الدقيق والموقف السياسي المبدئي.
مأساة غزة ساهمت في كشف المستور
من هنا، دعونا نقول إن مأساة حرب غزة، وبقدر ما هي مدمية ومحزنة للشعب الفلسطيني والغزاوي تحديداً، بقدر ما ساهمت في كشف المستور وتبيان حقائق لطالما بقيت متستِرة بغبار الشعبوية والانتصارات الوهمية والخطابات التجييشية بلا طائل ولا فائدة.
زيف محور الممانعة والدور الإيراني
ما حصل ويحصل في غزة حالياً فضح حقيقتين أساسيتين :
الحقيقة الاولى هي زيف محور ما يُسمّى الممانعة والمقاومة، أما الحقيقة الثانية فهي زيف الدور الإيراني في المنطقة وخديعة طهران بخصوص حقيقة موقفها من إسرائيل.
مخطط السابع من تشرين كان مدروساً
في الحقيقة الأولى، محور ما يُسمّى بالمقاومة والممانعة مأزوم جداً لدرجة تعالي الانتقادات الفلسطينية وآخرها من موسى أبو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” لمحور المقاومة والممانعة سائلاً إياه أين هو وماذا ينتظر ليهبّ لمساعدة “حماس” و”الجهاد الإسلامي” في حربهما ضد العدو الصهيوني؟
في المعلومات أن أحد المسؤولين في حركة “حماس”، وفي إحدى مقابلاته مع أصدقاء له، واسمحوا لنا بالتحفّظ على ذكر أسماء، أفصحَ لجلسائه أن المخطط الذي نُفّذ صباح ٧ تشرين الأول في غلاف غزة كان مدروساً مع قوى الممانعة والمقاومة، وكان مقرّراً له أن يؤدي الى الإطباق على إسرائيل من الشمال عبر دخول حزب الله من جنوب لبنان الى الجليل ودخول الميليشيات الإيرانية في سوريا الى الجولان ومنه الى تخوم إسرائيل الشمالية الشرقية، فيما حماس والجهاد الإسلامي يتوليان المواجهة المباشرة ضد الجيش الإسرائيلي لفتح ممر يربط قطاع غزة بالضفة فيتكرّس بذلك رسم معالم دولة فلسطينية بقوة النار والسلاح.
من خطة هجومية الى مجرد ” تقاصف” متبادَل
ويتابع المسؤول في “حماس” حديثه بإبداء الأسف على فشل هذه الخطة بالنظر لخذلان حلفاء “حماس والجهاد” من قبل محور المقاومة والممانعة في الانخراط الكامل والحقيقي في المعركة، ما أدى وسيؤدي الى فشل الهجوم الحمساوي الجهادي وتراجعهما الى داخل غزة وتحوّل خطة ما كان يُفترض أنها هجومية وتحريرية، ومن هنا تسميتها ” بطوفان الأقصى” الى مجرد عمليات تقاصف متبادل فيما الإسرائيليون استعادوا رويداً رويداً زمام السيطرة على المناطق التي خدعت حماس والجهاد يوم السابع من الشهر الحالي بحملهما على الظنّ بحصول خرق داخل إسرائيل، فيما تل أبيب كانت على علم بعملية عسكرية يتم الإعداد لها ولكن التقارير والإخباريات وضعت في درج بنيامين نتانياهو لاقتناص أكثر من عصفور بحجر واحد.
لا قرار إيرانياً بالانخراط في ” طوفان الأقصى”
محور المقاومة والممانعة طبعاً هو محور إيران في المنطقة، وبالتالي لا يتحرّك أي مسلّح أو عسكري أو قائد أو مسؤول عن فيالقه إلا بناءً على أوامر وتوجيهات الولي الفقيه في طهران، ووفقاً لأجندة طهران الإقليمية والدولية، ما يعني أن النظام الإيراني لم يُصدِر قراراً بالانخراط في طوفان الأقصى الى ميليشياته، وبنفس الوقت سمح لهم، حفاظاً على ماء وجه ميليشياته وعلى رأسهم حزب الله في لبنان، بالقيام بمناوشات حدودية مع العدو الإسرائيلي من دون تصعيد أو توسيع رقعة المواجهات، ومن أجل إسكات الحلفاء الفلسطينيين والغزاويين.
إدانات وشجب وشعب فلسطيني مختَطف
وفي هذا السياق، نشير الى الآتي :
إن مظاهرات واحتجاجات الشارع في أوروبا إبّان مجزرة المستشفى المعمداني في غزة تجاوزت في عديدها والمشاركين فيها أضعاف عدد الشارع العربي من تونس الى مصر الى اسطنبول فالأردن وسواها من عواصم عربية وإقليمية، حيث لوحظ اقتصار التظاهرات على بضعة الآف من الشبان والمواطنين المنفعلين والمتفاعلين إنسانياً مع المجزرة فقط من دون أي حشود شعبية جارفة في سائر الدول العربية والاسلامية.
كما أن ما لاحظناه من ردود فعل إقليمية وعربية ودولية واستنكارات وإدانات لم تتجاوز بيانات الاستنكار والشجب والتحذير والتنبيه والوعيد والدعوة لوقف إطلاق النار والسماح بإدخال المساعدات للشعب الفلسطيني المختطَف والمحاصَر في القطاع من دون أي تصعيد أكثر في المواقف وردود الفعل.
إفتضاح حقيقة الموقف الإيراني المزايد على العرب
من جهة أخرى، لوحظ الموقف الإيراني الرسمي المتمثّل بتصاريح وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير بعد اللهيان الذي لا يكاد يُطلق من بيروت أو دمشق أو بغداد تحذيرات وتهديدات لإسرائيل حتى تأتيه البيانات المناقضة من ممثلي دولته، كما المندوب الإيراني في الأمم المتحدة والذي نفى أي نية لبلاده بالتورّط في حرب غزة.
هذا الكلام يحملنا الى الحقيقة الثانية والمتمثّلة بافتضاح حقيقة الموقف الإيراني المزايد على العرب في موضوع فلسطين بالمقاومة ومقاتلة العدو، وعندما تحين المناسبة للانقضاض على هذا العدو تتراجع إيران وتمتنع عن استغلال لحظة ضعف أو ضعضعة إسرائيلية أو ارتباك داخلي في إسرائيل للقضاء على كيان مضى أكثر من أربعين عاما تتوعّد وتهدّد وتزبد بأنها ستقضي عليه وتنهيه.
الخديعة الآيرانية لحلفاء طهران
صحيح أن إيران هي التي سلّحت ومولّت ودرّبت حماس والجهاد الإسلامي، ورفعت شعارات القدس وزوال إسرائيل من الوجود وسمّت كتائب من ميليشياتها بالقدس وسواها من عبارات وشعارات، لكن الصحيح أيضاً أن كل هذا كان مزيّفاً وكاذباً وخديعة إيرانية لحلفاء طهران الإقليميين والفلسطينيين أولاً، وكذباً وخديعةً سياسيةً أثبتت بموجبه ضعفها وتراجعها عندما يصل الأمر الى حد المواجهة والحسم، لإن إيران وبكل بساطة وهذا ما يفرقها عن العرب “تتاجر” بالقضية الفلسطينية لتركب الموجة الشعبوية الإيرانية كسباً لأوراق تبادل وتفاوض مع الغرب وأميركا لتأمين مصالحها، بينما الأشقاء العرب عندما دافعوا عن فلسطين حاموها، وعندما دعموا سلطتها الشرعية أحيوها وعندما موّلوا فلسطين عمرّوها، وعندما صدقوا مع أشقائهم الفلسطينيين طرحوا السلام وفق خطة مدروسة هادفة أقروها في قمة بيروت عام ٢٠٠٢، معلنين اعتماد استراتيجية سلام وتنمية لفلسطين بدل خطة الحروب وسفك الدماء والخراب والدمار .
لا السعودية ولا الإمارات ولا بعض الدول الخليجية والعربية الشقيقة الأخرى حرّضوا على الكفاح المسلّح ولا اعتمدوا نهج حماس ولا دعموا بالسلاح بل أن كل ما قالوه في السنوات الأخيرة أن لديهم إسهامات في تحقيق السلام والحوار بين الفلسطينيين والإسرائيليين وتحقيق مستوى من العلاقة المباشرة لصناعة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية.
الفأس في الرأس
مَن حرّض على العنف ومَن قال إنه مع القصف والنسف والتدمير وإنه يستقبل قادة المقاومة وإن لديه الدعم، وهو محور الممانعة والمقاومة بميليشياته وإيران،
الآن وقع الفأس في الرأس، فماذا هم فاعلون وأين ذاك المحور المسمّى محور مقاومة ؟ أين الممانعة والردّ على الجرائم الإسرائيلية الدموية؟
أين وحدة الساحات؟ أين فيلق القدس ؟ أين قآني وأيتام سليماني وحسن نصرالله وصواريخ حيفا وما بعد بعد حيفا ؟
لا بل أين بشار الأسد بطل كارتون المقاومة والممانعة ؟ أين الحشد الشعبي وأين الحوثي الذي وصلت صواريخه الى الرياض فيما لم يصل صاروخ واحد منه الى تل أبيب ؟
طهران ضحكت على السذج
إيران كاذبة … ومحورها كذبة كبيرة … إنها خديعة العصر وخديعة المنطقة وكل ذي عقل مريض …
العرب جماعة حوار وسلام ومبادرات بنّاءة للتنمية والاستقرار، فيما الإيراني وميليشياته ضحكوا على السذج.
إيران ليست مستعدة لحرق أوراقها من أجل مكوّن سنّي
دعونا نكون أكثر صراحةً ونقول بإنه، واهمٌ كل مَن يتصوّر أن إيران ستتدخّل في فلسطين أو في أي جبهة أخرى من جبهات دول الاحتلال الإيراني أو أنها ستشعل من خلال ميليشياتها وعملائها جبهات مع إسرائيل لأنها ليست مستعدة لحرق أوراقها من أجل مكون سنّي ولو كان مقاوماً لإسرائيل ولو سحقوا في غزة : فنفطهم وغازهم قبالة سواحل غزة ذاهب الى السنّة فلماذا لا تدعوه طهران يذهب لليهود ولو على حساب إبادة الغزاويين ؟
إنها الخديعة الكبرى لإيران التي تبحث عن صفقة مع الأميركيين والإسرائيليين، ولا يهمّها لا فلسطين ولا غزة ولا إبادة إسرائيل … فمتى يستيقظ الغافلون … والمضَلَّلون… ؟