يبدو أن ما أكدناه في كتابتنا السابقة يجد مع الأيام ما يبرّره ويفسره ويؤكده .
الإدارة الأميركية تدرس حالياً تحرير مبلغ عشرة مليارات دولار أميركي لتسليمه الى إيران بمثابة تنازل جديد لإيران بإعفاء واشنطن المبلغ من العقوبات، وهو مجمّد في العراق ويمثّل فاتورة إيرادات بيع الكهرباء الى العراق .
أموال للأعمال الإنسانية
الإدارة الأميركية أوضحت أن الأموال المشمولة بالإعفاء الجديد سيتم استخدامها فقط للأعمال الإنسانية،
واللافت أن الخارجية الأميركية الغارقة في استقالات موظفيها وفي انقسامات الرأي حول غزة، ترفض حتى الآن نفي أو تأكيد إعفاء هذه الأموال من العقوبات في ارتباك داخلي واضح في مراكز القرار الأميركي .
تحفّظات إيرانية على بيان القمة الإسلامية
مهما يكن، فإن الصفقة في طريقها نحو الإتمام ومؤشراتها كثيرة، ليس أقلها استمرار الهدوء في ساحات محور ما يُسمّى المقاومة في المنطقة إزاء ما يحصل في غزة، ومشاركة إيران في قمة الدول الإسلامية في الرياض بشخص الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، وموافقة إيران على البيان الختامي للقمة لجهة حل الدولتين ومبادرة السلام العربية، وهي مواضيع كانت طهران حتى الأمس القريب ترفضها أقله علنياً، فاذا بها توافق عليها في القمة الأخيرة، وإن بادر وزير خارجيتها حسين أمير عيد اللهيان في اليوم التالي لاستلحاق ” الفضيحة ” بالإعلان عن تحفّظات إيرانية أُضيفت في اليوم التالي على البيان الختامي، في وقت كان بإمكان إيران التحفّظ أثناء القمة وأثناء تلاوة البيان من دون انتظار اليوم التالي، علماً أننا حتى الساعة لم نطّلع على تلك التحفّظات.
الصفقة الثانية بعد صفقة الستة مليارات
تلك الصفقة اذاً في طريقها نحو الإتمام، والمعلومات تفيد بأن ثمة مَن يجزم أن الصفقة تمّت فعلاً، فيما البعض الآخر يقول إنه ما زال في الوقت بقية وربما تحمل الساحة اللبنانية- الفلسطينية مفاجآت تعيد ترتيب الوضع الإقليمي، علماً
إنها الصفقة الثانية بعد صفقة الإفراج عن الستة مليارات منذ حوالي شهرين التي أفرجت عنها واشنطن من كوريا الجنوبية لصالح الإيرانيين، مقابل تبادل سجناء.
توقيت متناغم مع تهدئة الجبهات
اللافت توقيت الصفقة الثانية الحالية التي يُحكى عنها، والتي يجري الإعداد لخطواتها في أروقة القرار الأميركي، فالتوقيت يبدو متناغماً مع تهدئة الجبهات في سوريا ولبنان والعراق واليمن …والغريب أننا أصبحنا نقلق كلما ازداد الضرب العسكري الأميركي لمراكز الحرس الثوري وميليشيات إيران في سوريا والعراق بدل الشعور بالعكس، إذ أننا بتنا نخشى أن يكون وراء كل تصعيد إيراني ضد الوجود الأميركي تمهيد لصفقة جديدة كما هو حاصل حالياً، أما لبنان الضعيف قد يكون ضحية الصفقة الجديدة بمزيد من الوصاية الإيرانية عليه (وهي حالياً بحد ذاتها مكرّسة للأسف) مع طغيان حزب الله على مفاصل الدولة وقرار الحرب والسلم والتحكّم بالأمن والقضاء العسكري والاستخباراتي، وحتى النواحي الاقتصادية والمالية .
واللافت في تطورات الأيام القليلة الماضية كان حضور الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي قمة الدول الإسلامية في الرياض وموافقته على مقترحات عربية لا توافق عادة عليها إيران، فماذا “عدى ما بدى” في الأجواء ؟
صفقات إيرانية- أميركية غير مفاجئة
سبق وقلنا مراراً وتكراراً أنه، بموازاة الدمار والدماء والدموع في غزة وعلى غزة، ينشط البازار الإيراني ومعه عمليات البيع والشراء، وبالتالي فالأمر ليس بجديد ولا بمفاجىء أن تتم صفقات بين الإيرانيين والأميركيين، والسوابق شاهدة منذ حوالي ١٢ عاماً، وبعد دخول الإيرانيين الى سوريا بتفاهم ضمني مع الأميركيين للسماح لهم بالقتال الى جانب النظام .
عرضٌ إيراني للتفاهم على نار متّقدة
طهران متفاهمة منذ البداية مع واشنطن على حدود أدوارها وتدخّلها في المنطقة، الأمر الذي ساعد ويساعد الأميركيين على امتطاء الفرس الإيراني لتحقيق مصالحهم في المنطقة منذ نيف وأربعين عاماً،
فإيران بعدم إشعال الساحات دعماً لقطاع غزة قدّمت للأميركيين عرضاً للتفاهم، وهذا العرض يُبحث على نار متّقدة ومؤشراتها كبيرة ومحقّقة.
إراحة الحشد العراقي من الضغط الأميركي
العراق أيضاً قد يكون ضحية الثمن الأميركي للإيرانيين حيث ثمة مشكلات كبيرة في هذا البلد العربي بين الأميركيين والحشد الشعبي التابع لإيران : واشنطن كانت تدعم القوى الديمقراطية في العراق باتجاه قيام دولة حديثة وديمقراطية في العراق، لكن حالياً هذه القوى تتراجع ما أعاد الحشد الشعبي الى سابق عهده من توسّع لنفوذه وسيطرته، وبالتالي فإن إراحة الحشد من الضغط الأميركي سيكون ثمناً لإيران .
تموضعٌ ديمغرافي جديد في سوريا
في سوريا، المشهدية أكثر انفضاحاً إذ إن المطروح أن لا يعود المطلوب إخراج الإيراني من سوريا بقدر ما سيكون إعادة تموضع إيراني في سوريا يضمن استمرار وجود الإيرانيين في مناطق معينة لاستكمال مسلسل التغيير الديمغرافي الذي تمارسه طهران بالتعاون مع النظام السوري منذ سنوات، رغم استمرار بعض المناوشات العسكرية بين الأميركيين والإيرانيين لا تصل الى حد التأثير على التموضع الاستراتيجي الإيراني في سوريا .
وتيرة مقبولة تحت سقف قواعد الاشتباك
أما فلسطين فهي اكثر قضية تهم الإيرانيين كونهم يعلمون أن مَن يُمسك بزمام هذه القضية إنما يتحكّم بكل طاولات التفاوض والحوار الإقليمي والدولي، ولذا نرى أن الإيرانيين في موضوع ما يحصل في غزة يراقبون موازين الحرب، بدءاً من رغبتهم بأن تنتصر “حماس”، وهي حركة سنّية وإيران تريد الإيحاء بأنها مع المقاومة مع أنها سنّية، أي أن ما يهمها المقاومة وفلسطين محاولة منها لإعادة التفاف الرأي العام العربي والإسلامي حولها، لكن هذه الحسابات تُحرج الإيرانيين أيضاً، إذ لديهم خشية من ضعف “حماس”، ولذا يحاول الإيراني راهناً الإمساك بالعصا من المنتصف كقوة داعمة للتحرّر الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية، وفي نفس الوقت الضغط على الأميركيين والإسرائيليين لإنهاء موضوع غزة بأسرع وقت تجنّباً لمزيد من الإحراج لدى محور إيران الذي يستعيض عنه حزب الله ببعض المناوشات على الحدود الجنوبية بوتيرة مقبولة وتحت سقف قواعد الاشتباك .
طهران قلقة من دورٍ لحماس في المستقبل
منذ دخول الأميركيين العراق وإيران تكسب في المنطقة : حقيقة جيو سياسية يجب التوقّف عندها واستخلاص العبر كعرب عجزنا حتى الآن عن منع التمدّد الإيراني في المنطقة وتحقيق مكتسبات على حساب ٤ دول عربية .
حزب الله وإيران أمام موقف محرج جداً تجاه الراأي العام العربي والإسلامي، وبالتالي يمكن أن يذهبوا أكثر نحو الضغط على الإسرائيليين عبر جبهة الجنوب اللبناني كي يوقفوا عدوانهم على غزة بأسرع وقت للخروج من الإحراج الكبير، فيما الإيرانيون بالتزامن مع ذلك، مستعدين للتفاوض على كل الأوراق بمنطق الربح والخسارة وإتمام الصفقات والبازارات،
فإيران لا تريد “حماس” أن تربح ولا أن تخسر، بل هي قلقة مستقبلاً من أي دور لحماس في الموضوع الوطني الفلسطيني كونها باتت تعبّر عن تيار وطني فلسطيني، الأمر الذي لا يناسب طهران في البعدَين الوطني الفلسطيني والاستراتيجي الإيراني .
طالما أن إيران تُتاجر
صفقة جديدة تندرج في سياق الصفقات الموعودة التي يغيب عنها الواقع العربي والحسابات العربية التي اذا ما استمرت غير مؤثرة فسوف تعطي محور إيران في المنطقة المدّ من السيطرة والتحكّم بالتوافق مع الأميركيين والإسرائيليين والأتراك، وإن كان يهم إسرائيل وجود دويلات مذهبية ودينية في جوارها كي تبرّر لنفسها يهودية الدولة، وبالتالي قد لا تمانع في وجود زنار شيعي حولها في جنوب لبنان والجولان، لكن
الأمر الأكيد هو أن نهج المحور الإيراني في المنطقة يضعف ويتراجع طالما أن إيران تُتاجر .