عندما ترسم السعودية معادلاتها السيادية إقليمياً ودولياً

176140

مما لا شك فيه أن الحدث الأبرز الذي طبع الأيام القليلة الماضية في المنطقة كان زيارة الرئيس الصيني تشي جينبينغ الى المملكة العربية السعودية والقمم التي انعقدت فيها والإتفاقيات التي وقّعت على هامشها،
بغض النظر عما أسفرت عنه هذه القمم من بيانات ومواقف واتفاقيات يمكن العودة اليها لاحقاً تحليلاً وشرحاً، يمكن القول إن أهم ما حمله ذلك التطور رسائل وعِبراً أبرزها :

أولاً : الإنعطافة السعودية الكبرى في نهجها وسياستها الخارجية إقليمياً ودولياً، فالمملكة التي كنا نعرفها سابقاً وعبر التاريخ الحديث تبدّلت كلياً وانتقلت من مرحلة تلبية ما يحتاجه الحليف الأميركي الى مرحلة ما تحتاجه هي من الحليف الأميركي.
والمملكة التي كانت تبحث عن تدوير الزوايا ورأب الصدع وجمع الأضداد باتت رأس حربة أساسية في محاربة الأضداد والتصدّي لأي خطر يتهدّد أمنها وأمن الخليج، وباتت الرياض مركز استقطاب دولي- إقليمي ومحطة أساسية لا يمكن المرور بغيرها في أي حل أو أية تسوية.
طبعاً لعبت أزمة الطاقة الدولية منذ اندلاع حرب أوكرانيا دوراً جوهرياً في الدفع باتجاه احتلال المملكة مكانتها المفصلية والتي من خلالها باتت الرياض لاعباً أساسياً في المنطقة ومعادلةً صعبة لا يمكن حتى للقوى العظمى تخطّيها أو تجاهلها.
المملكة اليوم، وعلى رأسها ملك شجاع وولي عهد طموح ورؤيوي، باتت مملكة القبول بالتحدّيات لا بل مملكة مواجهة التحديات، والمواجهة الجاهزة بعد قراءة متأنية للبوصلة الجيو سياسية للأوضاع في العالم والمنطقة.
المملكة حالياً باتت قبلة اهتمام العالم بالنظر لإمكاناتها الهائلة في الطاقة ودورها المحوري التقريري في اعتماد العالم على الهيدروكاربون السعودي في خضم الحرب الدولية على مصادر الطاقة واستيرادها.

ثانياً : لا تزال الولايات المتحدة الأميركية مهمة في حسابات القيادة السعودية وواشنطن تدرك ذلك، كما يُدرك الطرفان أن واشنطن باقية في المنطقة ولكنها تُدرك أيضاً أن الرياض اتخذت خيارات التعامل مع الحرب الباردة المستجدّة من خلال سياسة الانفتاح على الجميع وأولهم الصين.
وكما للرياض مصالح حيوية وأساسية مع واشنطن كذلك لها مصالح أساسية وحيوية مع الصين وروسيا، فالرياض تعدّ العدة للانضمام لدول "البركس" وسواها من تجمّعات إقليمية تعزّز تعاون الدول المنتسبة مع بعضها، وتقيم منظومة تعاون إقليمي متماسكة في مواجهة تداعيات تلك الحرب الباردة وتلك الظروف الدولية الصعبة.
الشراكة التاريخية بين السعودية وأميركا تُضاف اليها بعد اليوم شراكة سعودية- صينية ثبّتتها زيارة الزعيم الصيني الى الرياض والقمم التي حصلت خلال تلك الزيارة.
من هنا، بات لزاماً على واشنطن أن تعمل على إعادة تصحيح مسارها الإقليمي ولا سيما مسار علاقاتها بالمملكة انطلاقاً من مصالح واشنطن مع السعوديين ليصبح هذا المسار الأميركي أكثر دقة واستيعاباً لواقع مصالح المملكة ودول المنطقة.

ثالثاً : في خضم الصراع الدولي الحاصل والحرب الباردة السائدة مجدّداً، وبدل سياسة عدم الإنحياز قرّرت المملكة اعتماد سياسة المواءمة مع الجميع، وهذه السياسة الجريئة والخطيرة دونها تحديات تعلم قيادة المملكة مكنوناتها كافة.
الولايات المتحدة الأميركية، كأية دولة عظمى، تخشى فقدان الشركاء الاستراتيجيين في المنطقة وعلى راسهم المملكة العربية السعودية، لذا لن يكون أمامها سوى التناغم مع متغيّرات سياسة المملكة الإقليمية والدولية، خاصة بعدما فشلت إدارة الديمقراطيين الحالية في لي ذراع الرياض في أكثر من ملف امتداداً من ملف مقتل خاشقجي وصولاً الى الهجمة الشرسة لا بل الحرب التي أعلنت على الرياض من واشنطن إثر قرار "أوبك بلاس" تخفيض كمية إنتاج النفط، تلك الهجمة التي سرعان ما دحضتها معطيات السوق النفطية الدولية وهبوط أسعار النفط الخام بما جنّب الأميركيين أنفسهم انخفاضات مثيرة وكارثية لسعر برميل النفط الأميركي الخام.
الصراع الدولي المستعِر حالياً والمرشح نحو المزيد من التوتر والتصادم والمواجهات قلب راساً على عقب كافة الخطط والحسابات التي كانت تحكم العلاقات الدولية والإقليمية، وأطاح بالتفاهمات والتحالفات التي كانت متوافقة على تسويات موضعية في أكثر من إقليم وأهمها الشرق الأوسط.
الرياض أنهت عصر تجنّب المواجهات وأنهت معها مرحلة تدوير الزوايا لعدم المخاطرة في لحظة دولية صعبة وخطيرة وقررت المضي في مواءمة دولية لسياساتها الخارجية تجمع بين كل القوى العظمى بما يلبي مصالحها ومصالح دول المنطقة والخليج والعرب.
ومن هنا، فإن المملكة دشنّت من الآن مرحلةً من التعاون الدولي المنفتح على الغرب كما على الشرق وحيث القوى العظمى كافة ترى فيها مصالحها المؤمنة من دون أي احتكار لعلاقات قوة مع الرياض على حساب العلاقات مع قوة أخرى، وحيث يجد الجميع من واشنطن الى بيجين الى موسكو الى الأوروبيين مصالحه مع المملكة مضمونة.
أولى نتائج هذا النهج السعودي زيادة اهتمام واشنطن بالضمانات الأمنية التي تطالبها منها الرياض ودول مجلس التعاون الخليجي.
فالحركية السعودية الجديدة نتيجة نهجها الجديد ستحوّلها بنظر الأميركيين الى حليف أكثر أهمية مما كانت عليه باعتبار أن الرياض ستصبح ممسكة بجملة من شبكات المصالح الإقليمية والدولية التي لا غنى لواشنطن عنها والتي تستطيع من خلالها المملكة لعب الدور المحوري الفاعل في توازنات النظام الدولي الحالي والنظام المقبل.
وهذه الحركية السعودية، بنهاية المطاف، تخدم استراتيجيات واشنطن في المنطقة وأولها مسألة اتفاقيات أبراهام التي سوف تنتقل قريباً من كونها اتفاقيات سلام وتطبيع عربية- إسرائيلية الى اتفاقيات إسلامية - إسرائيلية من باكستان الى القدس.
كما أن هذه الحركية السعودية المنفتحة على الصين وروسيا تضمن الرافعة المتوازنة والمتوازية للمشاريع والتحالفات الإقليمية الجديدة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والتكتلات الإقليمية الأمنية الجديدة كمثل المنظومة الأمنية العسكرية الأميركية- الإماراتية - الهندية- الإسرائيلية العتيدة، بحيث تكون الرياض في علاقاتها مع القوى الأخرى قادرة على تأمين التوازن الجيو استراتيجي مع القوى المناهضة للولايات المتحدة الأميركية عبر شبكة علاقاتها الاستراتيجية والإقتصادية مع القوى المناهضة لواشنطن.
هكذا تضمن السعودية وجودها في المؤسسات والتكتلات التي تقودها الولايات المتحدة الأميركية وتضمن أيضاً وجودها في آن واحد في المؤسسات والتكتلات التي تقودها الصين وروسيا، ما يعزّز من دورها ومركزها الجيو استراتيجي الأساسي، ويجعل الرياض ممسكة بكافة خيوط اللعبة الدولية في المنطقة فضلاً عن امتلاكها قرار النفط والطاقة بنسبة كبرى،
وحيث هناك ثمة مصالح أمنية وعسكرية ستكون الرياض على الدوام الى جانب واشنطن، ومصالح إقتصادية وتجارية واستثمارية ستكون الرياض على الدوام الى جانب الصين، فبيجين ليست لاعباً عسكرياً أمنياً مع الرياض، وأميركا ليست لاعباً تجارياً إقتصادياً مع الرياض.
الصين لا يمكنها تلبية احتياجات الرياض الأمنية والعسكرية وبخاصة في مواجهة إيران لكن بإمكان الرياض، ومن خلال علاقاتها مع الصين والروس، تطويق إيران سياسياً واستراتيجياً من خلال اجتلاب الصيني والروسي الى مائدة المصالح الضخمة.

التلاقي السعودي- الخليجي- الصيني لبناء شراكات استراتيجية إقتصادية وتجارية وسياسية بين الطرفين خُطّط له منذ العام 2001 الا أن الثورات العربية وغزو العراق قبل تسليمه لإيران، كلها تطورات أخّرته كثيراً عن مواعيده.

أما وقد حصل ما حصل فإن المملكة العربية السعودية افتتحت مرحلة جديدة باتت فيها معادلة أساسية سيادية تستقل بدور ريادي مؤثر جداً في المنطقة وعلى الحسابات الدولية، وتستقطب مصالح القوى العظمى سواء الغربية أو الشرقية، ما يجعلها بعد اليوم في صلب أي قرار دولي وإقليمي ووفقاً لحساباتها ومصالحها كما حسابات ومصالح دول الخليج والمنطقة العربية .

يقول الأديب والفيلسوف الفرنسي مونتسكيو في مؤلفه الشهير "روح القوانين" : لا يوقف القوة الا القوة
Le pouvoir arrête le pouvoir
فالقوة كما يقول لا تقيدها الا قوة من طبيعتها،
فالرياض قرّرت إيقاف قوة الأميركيين السلبية عليها وفي المعادلة بقوة الصين الأكثر إيجابية وبناءً وسلمية، على أن تبقى الشراكة مع الأميركيين استراتيجية وعسكرية وأمنية، وتكون الشراكة مع الصين إقتصادية واستراتيجية وتجارية وسياسية.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: