رب قائل إن الولايات المتحدة بعد النصفية لن تكون نفسها الولايات المتحدة بعدها سياسياً وخارجياً، فالنتائج التي تحققت الى الآن وبانتظار إعادة الانتخابات في ولاية جورجيا في 6 كانون الأول، وان لم تأتِ بتسونامي جمهوري كما كان متوقّعا، الا أنه شيئاً ما بدّل في قواعد اللعبة السياسية الداخلية، وهو أنه أعاد مجلس النواب للجمهوريين مع ما يعنيه ذلك من تحكّم بالميزانيات المالية التي تعتبر جزءاً أساسياً وحيوياً في أي سياسة خارجية.
عشيّة الانتخابات النصفية التي جرت في الثامن من هذا الشهر، غرّد أيلون ماسك، رجل الأعمال الأميركي الشهير والمالك الجديد لمنصة تويتر، قائلاً: "إلى الناخبين المستقلين، السلطة المشتركة تحدّ من أسوأ التجاوزات لكلي الحزبين، لذلك أوصي بالتصويت لكونغرس جمهوري، بالنظر إلى أن الرئاسة ديمقراطية."وبالفعل، تحقق لماسك ما أراد، وهو ما ألفته الولايات المتحدة عبر فترات متقطعة من تاريخها، من وجود حكومة منقسمة يسيطر فيها حزب على البيت الأبيض ومجلس الشيوخ، في حين تؤول أغلبية مجلس النواب إلى الحزب الآخر.
الحزب الديمقراطي ضمنَ السيطرة على مجلس الشيوخ بحصوله على 50 مقعداً مقابل 49 للجمهوريين، في حين يخوض الحزبان معركة الإعادة على أحد مقاعد ولاية جورجيا في السادس من كانون الأول المقبل، فيما ضمنَ الجمهوريون غالبية مجلس النواب بعد حصولهم على 218 مقعداً، مقابل 211 للديمقراطيين.هذا الهامش الضئيل يشي بالتقدم الضئيل للجمهوريين في مجلس النواب بتجربة جديدة من الحكومة المنقسمة في واشنطن قد تختلف عما عرفه تاريخ البلاد المعقّد في الحالات السابقة.
من هنا يمكن القول إن الولايات المتحدة الأميركية ستُحكم بشبه رأسين حتى انتخابات 2024 انطلاقاً من الملاحظات الآتية :
أولاً : الديمقراطيون يعرفون أن الاتجاهات التاريخية تشير إلى خسارة حزب البيت الأبيض الكثير من المقاعد، وخلال العامين الماضيين سيطر الديمقراطيون في مجلس النواب بغالبية ضئيلة من 5 مقاعد، من هنا كان من الصعب عليهم الاحتفاظ بالأغلبية. ولكن على الرغم من تلك الرياح المعاكسة، كان أداء الديمقراطيين أفضل بكثير مما كان متوقّعاً في الانتخابات النصفية لهذا العام، وحافظوا على سيطرتهم على مجلس الشيوخ بينما خسروها الآن.
ثانياً : إيمان أغلب الأميركيين أن تقسيم السيطرة على مراكز القوة في واشنطن يدفع الطرفين للحوار والتنسيق والمساومة، ويجبرهما على العمل معاً، على الأقل للحفاظ على استمرار عمل الحكومة الفدرالية.وفي هذا السياق، نشير الى أنه من المرجّح أن يصطدم مجلس النواب الجمهوري بمعظم القضايا مع مجلس الشيوخ الديمقراطي عامي 2023 و2024، وحول الوظائف الأساسية للدولة مثل تمويل الحكومة الذي يهدد بشلّ واشنطن في حال عدم التوصل لحلول وسط بشأنه.
ثالثاً : مرشحو الحزب الجمهوري أملَوا بالاستفادة من حالة الإحباط لدى الناخبين من ارتفاع نسب التضخم وتراجع شعبية الرئيس جو بايدن، لتتحوّل الانتخابات الى استفتاء على حكم الرئيس، لكن الناخبين أخذوا في الاعتبار كذلك قضايا أخرى مثل حقوق الإجهاض وحماية الديمقراطية، وهي عوامل صبّت في مصلحة الديمقراطيين مع العلم أن آخر مرة كان فيها الرئيس وكبار قادة الكونغرس من أحزاب مختلفة عام 2019، عندما استعاد الديمقراطيون السيطرة على مجلس النواب في انتخابات التجديد النصفي لعام 2018 بعد عامين من انتخاب الرئيس السابق دونالد ترامب.
رابعاً : أهمية سيطرة الجمهوريين مجدداً على مجلس النواب تكمن في أنها تعني أن الأجندة التشريعية للرئيس بايدن قد ماتت بشكل أساسي، ما لم يتمكن من العثور على حلول وسط ودعم من الحزبين لبعض المقترحات التي تفيدهما معاً، لذلك من المرجح أن ينصبّ تركيز بايدن خلال العامين المقبلين من رئاسته على الدفاع عن إنجازاته المميزة، مثل مشروع قانون خفض أسعار الأدوية، واستثمار مئات المليارات من الدولارات لمعالجة تغيّر المُناخ.هذا ويقول مشرّعون من الحزب الجمهوري إنهم يريدون بالفعل التراجع عن بعض برامج بايدن، أو وقف تمويل العديد منها.وسيواجه بايدن كذلك عدداً كبيراً من التحقيقات حول مجموعة واسعة من القضايا، بحيث قال كبار أعضاء الحزب الجمهوري، من أنصار الرئيس السابق دونالد ترامب في لجنتي الرقابة والقضاء بمجلس النواب، إنهم يخططون للتحقيق في التعاملات التجارية لنجل بايدن، هانتر بايدن، وسياسات الرئيس تجاه الحدود الأميركية المكسيكية، وأصل فيروس كورونا، وفوضى انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان.ولكن، نظراً لأن هامش الأغلبية ضئيل للغاية، فقد يكون هناك ضغط من الجمهوريين الأكثر اعتدالاً للتراجع عن بعض التحقيقات، والتركيز بدلاً من ذلك على القضايا التي تهمّ الناخبين الجمهوريين بصورة أكبر، ما قد يفسح المجال امام الديمقراطيين لتجاوز العديد من المطبّات.هذا ويُتوقّع، إن لم يطرأ تغيير في اللحظة الأخيرة، أن يرأس كيفن مكارثي مجلس النواب بعد تقدّم الجمهوريين فيه بغالبية ضئيلة، فكل المؤشرات ستصبّ لصالح ترؤس النائب مكارثي مجلس النواب، وهكذا يصبح صاحب المنصب الثالث في منظومة الحكم الأميركي.والمعلوم أنه في شهر أيلول الماضي، كشفَ مكارثي عن أجندة الحزب الجمهوري التي تُسمّى " الإلتزام تجاه أميركا"، وهي تركّز على أهداف واسعة النطاق في 4 مجالات: الاقتصاد والأمن والحرية الشخصية ومساءلة الحكومة، ويخطط الجمهوريون كذلك لتغيير قواعد مجلس النواب التي تسمح حالياً بالتصويت "عن بُعد"، وهي ممارسة وضعها الديمقراطيون خلال جائحة فيروس كورونا. كما تعهدوا بإزالة بعض الترتيبات الأمنية مثل بوابات الكشف عن المعادن والأسلحة، والتي وضعت عند مداخل مبنى مجلس النواب في أعقاب هجوم 6 كانون الأول 2021 على مبنى الكابيتول.
خامساً : بعد إعلان رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي (82 عاماً) عزمها عدم قيادة الديمقراطيين في مجلس النواب، يبدو أن هناك ارتفاع لحظوظ النائب حكيم جيفريز لخلافتها. وعلى الجانب الجمهوري، ضمنَ السيناتور ميتش ماكونيل استمرار موقعه كزعيم للجمهوريين في مجلس الشيوخ، فيما الكونغرس بتركيبته الحالية سيبقى على ما هو عليه حتى تاريخ 3 كانون الثاني 2023 حيث يدخل في حلّته الجديدة التي جاءت بها الانتخابات النصفية وتبدأ ولايته الجديدة حتى العام 2024. أما من الآن وحتى 3 كانون الثاني، وهي الفترة الواقعة بين الانتخابات النصفية وبدء عمل الكونغرس الجديد بفترة، فتُعرف بفترة "البطة العرجاء" حيث يستمر عمل الكثير من النواب ممن خسروا بالفعل مقاعدهم في الكونغرس الجديد، في وقت يأمل فيه قادة الديمقراطيين في المجلس وضع اللمسات الأخيرة على اتفاق ميزانية بين الحزبين لتمويل الوكالات الحكومية خلال الفترة المتبقّية من السنة المالية، وتجنّب إغلاق حكومي محتمل لها.وأشارت رئيسة "النواب" إلى أنها ترغب في أن يرفع الكونغرس حد الدين العام لتجنّب أي نقاش مثير للجدل، والتهديد بالتخلّف عن السداد أوائل العام المقبل، كما تأمل بيلوسي في تمرير تشريع من شأنه أن يوضح كيف يصادق الكونغرس على نتائج الانتخابات الرئاسية من خلال تجديد قانون فرز الأصوات، وهو قانون سُنّ للمرة الأولى عام 1887، وقد استغل ترامب وحلفاؤه الارتباك بشأن أحكام القانون بانتخابات 2020. ويقول المشرعون إن القانون الجديد ضروري لمنع هجوم آخر على مبنى الكابيتول.
سادساً : هنأ الرئيس بايدن مكارثي، وعرض العمل مع الجمهوريين لتحقيق نتائج أفضل لكل الأميركيين، قائلاً في بيان: "إن المستقبل واعد للغاية بحيث لا يمكن أن يكون محاصراً في حرب سياسية، والشعب الأميركي يريدنا أن نتعاون من أجله. إن الأميركيين يريدوننا أن نركز على القضايا التي تهمّهم وعلى جعل حياتهم أفضل" ما يعني أنه من المتوقّع أن تؤثر توجهات الجمهوريين المختلفة على فعالية أغلبيتهم الضئيلة داخل مجلس النواب الأميركي، علماً أن ضآلة الأغلبية الجمهورية داخل الكونغرس قد تحدّ من قدرة زعيم المجلس مكارثي على الحركة بحرية، إذ يجب عليه مراعاة تجمع أنصار ترامب بالمجلس ممن سيدفعون في اتجاه إجراء تحقيقات مبكرة للرئيس بايدن، وبين الجمهوريين التقليديين الذين يهمّهم تمرير أجندة متوازنة مفيدة للأميركيين في ظل الأوضاع الصعبة التي يعيشونها.لا تمنح نتيجة الانتخابات النصفية تفويضاً كبيراً لأي من الحزبين، ولا لأي كتلة داخل المحورين. وعليه، يُنتظر أن تكون هناك الكثير من المساومات والمواءمات، خاصة وأن الديمقراطيين يسيطرون على مجلس الشيوخ، وقد يعرقلون أية مبادرات متهوّرة من جانب جمهوريي مجلس النواب، خاصة في ظل الدور المؤثر لمجلس الشيوخ في ضبط توازن الخلافات بين الجمهوريين والبيت الأبيض، اذ كي يصبح التشريع قانوناً، يجب أن يحصل على غالبية مجلسي الكونغرس، النواب والشيوخ، قبل إرساله الى البيت الأبيض لتوقيع الرئيس عليه.ويحتاج الجمهوريون في مجلس النواب مجلس الشيوخ خلال العامين المقبلين في حال رغبتهم بتبنّي وتمرير أي مشروع قرار. من هنا، فأن المساومات هي من سيتحكّم بحجم الخلافات والصراعات داخل واشنطن خلال العامين المقبلين، والى حين الانتخابات الرئاسية المقبلة التي أبدى الرئيس جو بايدن رغبته في ترشيح نفسه للمرة الثانية لها، فيما الرئيس السابق دونالد ترامب، ورغم الهزيمة النسبية التي تلقاها بسقوط قسم كبير من مرشحيه الجمهوريين، عازم على خوض التجربة الرئاسية مرة ثانية ومستعد لإعلان ترشحه وخوض معركة الرئاسة مرة جديدة، علماً أن إبنته إيفانكا ترامب لا تبدو هذه المرة متحمسة لوالدها، وقد أعلنت اعتزالها العمل السياسي للتفرغ لعائلتها، ما يطرح أكثر من علامة استفهام حول مدى قوة ترامب الانتخابية هذه المرة إن هو أصرّ على الترشّح.
الأكيد أن ثمة قوتين حزبيتين ستُجبران على التعاون مع بعضها في السنتين المقبلتين، وقد أراد الشعب الأميركي أن لا تتغلب قوة من أي منهما على الأخرى .