ما من شك بأن ما حصل في إقليم ناغورني كاراباخ من سقوط بيد المحور التركماني- الاذري وإنهاء شبه الاستقلال الذي كان ينعم به هذا الإقليم نتيجة حتمية لتبدّل موازين القوى من جهة وانعكاسات ومضاعفات الحرب في أوكرانيا من جهة أخرى.
تركيا وإيران لم يحافظا على حساباتهما الإقليمية
ما حصل لم يكن ليحصل لو أن إيران حافظت في حساباتها الإقليمية على دعمها للأرمن في الإقليم، ولو استمرت تركيا في تهيّب الوجود الروسي، ما أتاح المجال أمام تنفيذ الهجوم الساحق الماحق على الإقليم الأرمني التاريخي.
رابح أول وخاسر أول
من الواضح طبعاً أن ثمة رابح أول وخاسر أول : الرابح الأول هو المحور التركي - الاذري الذي تعزّز وجوده وتأثيره على حساب وجود روسيا وتأثيرها، أما الخاسر الأول فهو واقعياً الأرمن وأرمينيا التي اعترف رئيسها باشينيان بأن اتكاله على الروس كان خطأ استراتيجياً، إلا أنه في الواقع الجيو سياسي فإن الرئيس فلاديمير بوتين هو الذي حاول منذ سنتين إظهار نفسه وبلده على أنها المتحكّمة بمفاصل التوازنات في منطقة القوقاز التي تشكل امتداداً طبيعياً واستراتيجياً لأمنها القومي، والتي كانت قد لعبت دوراُ في الفصل بين الأرمن والاذريين في الأحداث السابقة على أساس أنها ضمانة للطرفين في تسوية سلام لم تدم، حيث نجحت أنقرة في لحظة ضعف الرئيس بوتين في إنهاء الصراع بالقوة، مستغلّة التأييد الأميركي- الإسرائيلي لأذربيجان ووحدة أرمينيا بعدما ضعف حلفائها وفي مقدمهم موسكو وطهران.
صراع ثلاثي الأبعاد في إقليم كاراباخ
ما حصل اذاً في إقليم كاراباخ صراع ثلاثي الأبعاد : البعد التركي - الروسي الذي كان بعداً مهادناً عندما كان ثمة منصة سوتشي وتفاهمات ثنائية روسية- تركية حول سوريا وحاجة متبادلة لبعضهما في تقاسم الورقة الإقليمية بدءاً من سوريا، والبعد الاذري - الإيراني الذي لطالما تميّز بالعداء والتوجّس خصوصاً من جانب إيران القلقة من دور اذاري مضعضِع لأمنها وسلامة أراضيها، وهي المقلب الآخر من الشيعية المتناقضة مع شيعية ولاية الفقيه، فضلاً عن وجود حوالي 20% من الإيرانيين من أصول اذارية لا يخفون نيتهم بالالتحاق يوماً بالوطن الأم، وهو المطلب الذي جمّده الى أجل وجود مرشد الجمهورية علي خامنئي الاذري الأصل حيث يمكن من هنا فهم هشاشة وحدة إيران الحالية التي تبقى رهن وجود خامنئي نفسه على رأس السلطة.
أما البعد الثالث فهو البعد الأميركي - الروسي الذي من ضمنه إسرائيل الحليفة والصديقة لأذربيجان حيث أن خسارة إقليم كاراباخ يعني في ما يعنيه خسارة النفوذ والحسابات الروسية لصالح تعزيز النفوذ الاذري- التركي- الأميركي- الإسرائيلي في القوقاز الاستراتيجي، وبالتالي نوع من التطويق لروسيا من الجنوب، وتهديد أمنها القومي وعمقها الاستراتيجي، وتطويق لإيران شمالاً بما يهدّد أمن إيران القومي مع وجود التأثير الإسرائيلي المتعاظم في أذربيجان.
علاقات أرمينيا وأميركا إنعكست سلباً على الكرملين
من المؤكد أن تقارب أرمينيا من الغرب لم يفلح في تقوية ظهرها في وجه التهديد الاذري باعتبار أن المصالح والحسابات الأميركية مع أرمينيا هي أقل أهمية بكثير من مصالحها وحساباتها حيال "كسر هيبة الدب" الروسي ووجوده وتأثيره في إحدى أدق وأخطر مناطق نفوذه،
فالتدريبات الأميركية- الأرمينية التي جرت بين ١١ و٢٠ أيلول الماضي انعكست سلباً على ثقة الكرملين بأرمينيا وأدت الى انعكاس سلبي للنظرة الروسية التي كانت تطمح بإبقاء المنطقة بعيدة عن التأثير الأميركي، ونذكر تصريح المتحدث بإسم الكرملين ديمتري بيسكوف قبل اندلاع المواجهات الأخيرة الذي إعتبر أن تخطيط أرمينيا لإجراء مناورات عسكرية مع الولايات المتحدة الأميركية لا يساعد في استقرار الوضع، مؤكداً آنذاك على دور روسيا الضامن للأمن في القوقاز، وقد أتت التدريبات لا بل المناورات الثنائية الأميركية- الأرمينية في سياق تجميد أرمينيا فعلياً التعاون في إطار منظمة الأمن الجماعي في كانون الثاني الماضي واستقبال يريفان مناورات المنظمة على أراضيها.
موسكو تعاقب يريفان
موسكو إذاً في مكان ما فضلّت التخلي عن كاراباخ للتركي والاذري عقاباً الى حد ما لأرمينيا، وفي نفس الوقت درءاً للمخاطر المتعاظمة المتأتية من الوجود الأميركي الفاعل في المنطقة.
الرئيس بوتين وكأنه حاول التقليل أو الحد من الخسائر بينما في الواقع فقد الكثير الكثير من التأثير والنفوذ ثمناً لصراعه مع الأميركيين والإسرائيليين .
اعتماد أرمينيا على دولة واحدة فقط هي روسيا كان خطأ استراتيجياً، فكلام للرئيس الأرميني باشينيان يعكس حقيقة الشعور الأرميني حيال الدور الروسي الذي لم يكن مطمئناً لأرمينيا، وقد زاد القلق الأرميني حيال الدور الروسي منذ خريف ٢٠٢٠ والذي لم يكن متوازناً بين البلدين المتصارعين لاعتبارات جيو سياسية روسية ذات ارتباط بحسابات الحرب في أوكرانيا والتورّط الروسي الكبير والمتعاظم فيها.
تغيّر حسابات … وتبدّل أولويات … وتوازنات مستجدة ذهبت كاراباخ ضحيتها جميعها …