مثّل الهجوم الأخير الذي نفّذته جماعة الحوثي على مدينة إيلات جنوب إسرائيل، تحولًا نوعيًا في مسار المواجهة المفتوحة بين تل أبيب والجماعة المدعومة من إيران.
فقد أدت طائرة مسيّرة انطلقت من اليمن إلى إصابة ما لا يقل عن 22 إسرائيليًا، بعضهم في حالة خطيرة، بعدما اخترقت الدفاعات الجوية الإسرائيلية ووصلت إلى هدفها في منطقة سياحية مكتظة.
وبرغم محاولات الجيش الإسرائيلي اعتراضها، إلا أن المسيرة حلّقت على ارتفاع منخفض، ما جعل مهمة التصدي لها بالأنظمة المتقدمة شبه مستحيلة.
هذا الهجوم أثار تساؤلات واسعة بشأن كفاءة المنظومات الدفاعية الإسرائيلية، أبرزها "القبة الحديدية" ونظام "الشعاع الحديدي" الذي رُوّج له كأداة ثورية لإسقاط الطائرات المسيّرة.
لكن لماذا فشلت إسرائيل في صد هجوم واحد قادم من اليمن، وكيف انعكست العزلة السياسية وتراجع التنسيق مع دول الجوار على قدرتها الدفاعية؟
هنا يبرز تحليل الأستاذ الزائر في الناتو والأكاديمية الملكية العسكرية ببروكسل، سيد غنيم، الذي قدّم رؤية دقيقة لما جرى، مفسّرًا الفشل الإسرائيلي من زوايا تقنية وتكتيكية واستراتيجية.
تكتيكات أربكت الدفاعات الإسرائيلية
يرى غنيم أن المسيرات الحوثية لا تعتمد فقط على عنصر المفاجأة، بل على تكتيكات مدروسة تجعل اكتشافها واعتراضها بالغ الصعوبة.
بحسب تحليله، الطائرة التي استهدفت إيلات كانت تحلق على ارتفاع منخفض للغاية، ما أعاق قدرة الرادارات على رصدها مبكرًا. ويضيف أن المسيرة قد تكون مصنوعة من مواد خشبية أو مركبة، ما يقلّل بشدة من "المقطع الراداري" ويجعلها شبه متخفية أمام أجهزة الاستشعار التقليدية.
ويذهب غنيم أبعد من ذلك، مشيرًا إلى أن المسارات الجبلية في منطقة خليج العقبة ربما استُغلت بذكاء من قبل الحوثيين لتمرير الطائرة دون كشف. وقال: "قد تكون المسارات التي تتخذها المسيرة بين الجبال، خصوصًا باتجاه إيلات عبر خليج العقبة، وفرت لها غطاءً طبيعيًا يصعّب على الرادارات اكتشافها. في هذه الحالة، تصبح المراقبة بالنظر أكثر كفاءة من أجهزة الرادار المتطورة".
هذا الطرح يسلّط الضوء على ثغرة خطيرة: التكنولوجيا مهما بلغت من تطور، لا يمكن أن تكون بديلاً كاملاً عن المراقبة البشرية المباشرة، خصوصًا في مناطق معقدة التضاريس.
عزلة إقليمية تقلص هامش المناورة
لا يقف الفشل عند حدود التقنية، بل يمتد إلى الجغرافيا والسياسة. يشير غنيم إلى أن إسرائيل تعاني اليوم من عزلة إقليمية نسبية حدّت من قدرتها على التنسيق مع دول الجوار، بخلاف ما كان يحدث سابقًا.
وهذا ينعكس مباشرة على فاعلية "المظلة الجوية" الإسرائيلية، إذ إن تشغيلها يحتاج أحيانًا إلى دخول أجواء دول مجاورة، مثل مصر أو الأردن. وقال غنيم: "المظلات الجوية تتحرك دفاعيًا، لكن قد تضطر لمطاردة مسيرة إلى دخول أجواء دولة جارة، وهذه الدولة قد لا تسمح بذلك حاليًا. الأمر يقيد حركة القوات الجوية الإسرائيلية ويضعف قدرتها على التعامل مع مثل هذه الهجمات كما كانت تفعل سابقًا".
هنا يتضح أن السياسة لا تنفصل عن التكتيك العسكري: غياب التنسيق أو رفض الدول المجاورة السماح بحرية الحركة الجوية يجعل إسرائيل أكثر عزلة، ويقلّص قدرتها على حماية حدودها البعيدة.
نظام "الشعاع الحديدي" بين النظرية والواقع
كثيرون تساءلوا: أين هو نظام "الشعاع الحديدي" القادر على إسقاط الطائرات المسيّرة بكفاءة عالية؟
يجيب غنيم: "المشكلة ليست في دقة الاستهداف، بل في الإنذار المبكر. فالنظام مهما بلغت كفاءته يحتاج أولًا إلى اكتشاف الهدف وتعقبه".
يضيف: "النظام يعتمد أساسًا على وسائل الإنذار، لكن إذا لم تُكتشف الطائرة في الوقت المناسب فلن يكون هناك مجال للاستهداف. المشكلة هنا في الاكتشاف، لا في الاستهداف".
بمعنى آخر، يمكن لإسرائيل أن تملك أكثر الأنظمة دقة وفتكًا، لكنها تبقى عاجزة عن تشغيلها إذا لم تتمكن من كشف الهدف في اللحظة المناسبة.
المراقبة البصرية.. السلاح الأقدم والأكثر كفاءة
طرح غنيم نقطة لافتة قد تبدو صادمة في عصر الطائرات دون طيار والرادارات المتقدمة: المراقبة البصرية بالعين المجردة أو عبر وسائل كهرو-بصرية بسيطة قد تكون أحيانًا أكثر فاعلية من الرادارات.
المسيرات المصنوعة من مواد مركبة أو خشبية والتي تحلق على ارتفاع منخفض يمكن أن تخدع الرادارات، لكنها تظل مرئية بالعين. وقال غنيم: "المراقبة بالنظر هي التي تستطيع أن تشاهد تلك النوعية من المسيرات ربما بكفاءة أكبر من الرادارات".
هذا يعيد النقاش إلى جدلية الجمع بين التكنولوجيا المتطورة والوسائل التقليدية، ويطرح تساؤلًا حول ما إذا كانت إسرائيل قد أهملت جانب "المراقبة البشرية" في اعتمادها المفرط على الآلات.
التأثير مقابل الصمود.. من يربح المعركة؟
أثار الهجوم الحوثي الأخير سؤالًا مركزيًا: من يصمد أكثر في هذه المواجهة غير المتكافئة، الحوثيون أم إسرائيل؟
أجاب غنيم بميزان بارد: "القضية ليست صمودًا بقدر ما هي تأثير. العملية الحوثية قد تنجح في إحداث اختراق أو إصابات،كما حدث بإصابة 22 إسرائيليًا، لكن تأثيرها يظل محدودًا إذا ما قورن بالقدرات الإسرائيلية. في المقابل، الضربات الإسرائيلية على الحوثيين نظريًا تأثيرها أكبر، لكنها عمليًا لا تُحدث التأثير الكافي على قدراتهم".
إذن المعادلة ليست من الأقوى، بل من الأقدر على إحداث التأثير الذي يغير موازين المعركة. الحوثيون رغم ضعف قدراتهم مقارنة بإسرائيل، استطاعوا توجيه ضربة موجعة نفسيًا وسياسيًا. أما إسرائيل، فرغم تفوقها العسكري، فإن تأثير ضرباتها على الحوثيين ظل محدودًا.
قيود البحر الأحمر.. معركة أخرى في الجغرافيا
أشار غنيم إلى نقطة استراتيجية بالغة الأهمية: البحر الأحمر ليس كالبحر المتوسط أو المحيطات الواسعة. إنه ممر مائي ضيق تحيط به دول عدة، وتتحكم في ممراته الجغرافية عدة دول.
أي تحرك إسرائيلي بحري أو جوي في هذه المنطقة يحتاج إلى تنسيق وإذن مسبق، وإلا فإن هناك أزمة سياسية مع الدول المجاورة. وأضاف غنيم: "حتى عندما حركت إسرائيل قطعها البحرية لتنفيذ مناورات تدريبية، كان لا بد من الاستئذان من دول الجوار. البحر الأحمر ضيق، والمياه الإقليمية فيه ليست كالمحيطات. أي تحرك إسرائيلي منفرد يمثل مشكلة مضاعفة".
بهذا يصبح البحر الأحمر ساحة معركة جيوسياسية بقدر ما هو عسكرية، ويزيد صعوبة الرد الإسرائيلي أو فرض القوة دون حسابات دقيقة.
بين الإنذار والاستخبارات.. فجوة معلوماتية
رغم القدرات التكنولوجية الإسرائيلية، يرى غنيم أن عامل المعلومات الاستخباراتية ما زال غير كافٍ لمواجهة الحوثيين. حتى حينما نجحت إسرائيل في استهداف بعض قيادات الحوثي قبل أسابيع، كان ذلك بمحض الصدفة وبفضل متابعة محدودة، لا نتيجة اختراق استخباراتي واسع.
هذا يضع إسرائيل أمام معضلة: كيف تواجه خصمًا لا تملك عنه المعلومات الكافية، ويستخدم تكتيكات بدائية لكنها فعالة في ضرب نقاط ضعف المنظومة الدفاعية؟
خطاب نتنياهو وحدود الردع
رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علّق على هجوم إيلات بقوله: "كل هجوم على مدننا سيقابل بضربة قاسية وموجعة على الحوثيين كما فعلنا سابقًا".
لكن تحليل غنيم يشير إلى أن هذه التصريحات أقرب إلى خطاب ردعي أكثر منه خطة عملية قادرة على تغيير المعادلة. فالرد الإسرائيلي، حتى وإن كان عنيفًا، يبقى محكومًا بقيود الجغرافيا، والعزلة السياسية، ومحدودية التأثير على قدرات الحوثيين الذين أثبتوا قدرتهم على امتصاص الضربات ومواصلة الهجمات.
الخلاصة
الهجوم الحوثي الأخير على جنوب إسرائيل، وما رافقه من عجز دفاعي إسرائيلي وتوترات إقليمية، يكشف عن تحول واضح في معادلة الصراع.
المعادلة لم تعد محصورة بين تل أبيب وغزة أو بين إيران وإسرائيل فحسب، بل تشمل ساحة ثالثة من اليمن، ما يزيد المشهد تعقيدًا ويضعف صورة الردع الإسرائيلي أمام الداخل والخارج.
تصريحات الباحث سيد غنيم تحمل تحذيرًا واضحًا: استمرار هذه الاختراقات سيضاعف الضغط على الحكومة الإسرائيلية ويمنح الحوثيين، ومن ورائهم طهران، ورقة سياسية وعسكرية ثمينة.
وبينما يسابق الجيش الإسرائيلي الوقت لسد ثغراته الدفاعية، تبدو الأسئلة حول قدرته على مواجهة تعدد الجبهات أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. معركة الطائرات المسيّرة ليست مجرد مواجهة تكتيكية عابرة، بل مؤشر على دخول الشرق الأوسط مرحلة جديدة من التصعيد، حيث تتقاطع التكنولوجيا مع السياسة في رسم مسار الحروب المقبلة.