مؤشرات نهايات النظام السوري المأساوية

178485

في خضم جلبة الحرب في أوكرانيا والتوتر الإيراني مع داخله ومع الغرب، تتهاوى الأوضاع الداخلية في سوريا بشكل مريع، الأمر الذي يُنذر بتطورات متسارعة سوف تقلب المشهدية التي أرستها انتصارات الروس والإيرانيين على الشعب السوري مناصرةً لنظام بشار الأسد.
وفيما وصفت الأوضاع الإقتصادية والمعيشية في سوريا بأنها الأسوأ على الإطلاق منذ الحرب العالمية الأولى، طُرح أكثر من تساؤل حول قدرة نظام دمشق على الصمود والاستمرار.

فعندما كانت فصول الحرب الأهلية متوالية، رجّح الدعم السياسي والعسكري الذي قدمته روسيا وإيران كفة النظام السوري ضد صالح معارضيه، ولكن هذا الدعم اللامتناهي فشل في انتشاله من أزمة إقتصادية باتت هي الأسوأ من نوعها، مع قرب نهاية العام 2022،
و آخر فصول هذه الأزمة ظهرت مع انعدام وجود المحروقات في المحافظات السورية، وفي حين انعكست تداعياتها على قطاعات حيوية في البلاد، وأثّرت بالسلب على منظومة عمل بعض الدوائر الحكومية، ما أضفى على الرواية الرسمية صفتي الكذب والتمويه، عندما إدّعت "ضعف التوريدات النفطية" بسبب ما اعتبرته "ظروف الأصدقاء"، وإشكالية آلية الدفع بالنقد الأجنبي، وتأخر وصول ناقلات النفط.

النظام اتخذ من مسألة تأخر وصول ناقلات النفط حجة لتبرير تعمّق الأزمة، مدعياً أنه اضطر إلى اتخاذ إجراءات لتغطية الحاجات الأساسية فقط، لكن وبعد أيام نشرت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك السورية بياناً أوضحت فيه أن توقف التوريدات ناتج عن ظروف الأصدقاء الذين يزودون سوريا بالمشتقات النفطية وأنه يجري العمل على حلها، ليعلن وزير التجارة الداخلية في نظام الأسد عمرو سالم أن لا موعد أو جدول زمني لأزمة المحروقات، وأن حكومته ليست عاجزة عن تأمين النفط بطرق مختلفة، لكن تأمينه بالقَطْع الأجنبي والدفع النقدي عبء ثقيل على القطع الوطني لا يمكن القبول به، وبأثره على الليرة السورية …

ما تعانيه سوريا منه حالياً من أزمات خانقة ناجم عن اجتماع ثلاثة عوامل أساسية : الحرب في أوكرانيا والعقوبات على الرئيس فلاديمير بوتين والثورة الشعبية في إيران ونفاذ صبر العرب والغرب على تعنّت بشار الأسد،
وبالتالي استفحلت الأزمة المعيشية في بلدٍ بات يعيش على أوكسجين المساعدات الروسية والإيرانية بفضل سوء سياسات نظام الأسد وبيعه نفسه لحليفين لم يعد بإمكانهما مساعدته كما كان يعتقد الأخير، والذي اعتاد على الاتكاء عليهما لإنقاذ نظامه من الانهيار العسكري والسياسي، وها هو اليوم يجد نفسه وحيداً مع انشغال حليفيه في تحدياتهما المتكتلة والمتراكمة والمتزايدة.

في سوريا اليوم حصة المحروقات لآليات وباصات النقل العام خُفّضت الى النصف وهي أصلاً بكاملها لم تكن كافية من قبل، فيما الخبز في الافران شبه مقطوع والطوابير منذ الفجر تتكاثر للحصول على ربطة واحدة أو أقل أحياناً، أما أسعار المواد الإستهلاكية فهي الى ارتفاع جنوني والإنترنت ضعيف بحيث أن راتب السوري لم يعد يكفيه الا لبضعة أيام من الشهر.

شرارة الاحتجاجات على هذه الأوضاع الكارثية بدأت من السويداء منذ أيام حيث سُجّل اقتحام ومهاجمة المحتجين لرموز الدولة ومقرّاتها في ظل حالة غضب شعبي عارم من تردّي الأوضاع وعجز الدولة أو ما تبقى منها عن معالجة الأزمات المتراكمة.

هكذا وفي قراءة سياسية للمشهد في سوريا يمكن القول إن نظام الأسد بدأ يدفع ثمن سياساته وتحالفاته الفاشلة مع الروس الذين لم يعد بإمكانهم إرسال النفط والطحين اليه كما كان الحال قبل اندلاع الأزمة الأوكرانية وتداعياتها، فروسيا اليوم بالكاد تستطيع توفير مقوّمات معاركها وحروبها العبثية في ظل زيادة العقوبات الغربية عليها وإعطاء الأولوية من المواد التموينية والنفطية لحاجات سوقها الداخلي ومجهودات جنودها الحربية في أوكرانيا.
إيران من جهتها، والتي لطالما قدّمت لبشار الأسد مساعدات كبيرة بالمحروقات وأرسلت اليه العشرات من البواخر وناقلات النفط، باتت هي أيضاً في وضع سيء بحيث توقّفت وتجمّدت الشحنات النفطية الى سوريا، فطهران تواجه أسوأ أزمة داخلية مع تنامي الثورة الشعبية ضد نظام الملالي في ظل توتر كبير مع العرب والغرب في الآونة الأخيرة وتصاعد العقوبات والتهديدات بينها وبين المجتمع الدولي.

الدعم الروسي والإيراني لنظام دمشق لم يكن من دون مقابل، بل كان في لقاء "فواتير"، تمثّلت باتفاقيات إقتصادية "لا حصر لها"، تمكّنت من خلالها موسكو الآستحواذ على قطاعات حيوية في البلاد، من قبيل النفط والفوسفات ومعامل الأسمدة وعقود التنقيب في مياه المتوسط وميناء طرطوس، فيما اتّبعت طهران نفس المسار حيث وقّعت مع النظام اتفاقيات أتاحت لها موطئ قدم في قطاع الفوسفات، وقطاعات أخرى مثل الكهرباء والاتصالات، وميناء اللاذقية.
حالياً لا تلوح في الأفق القريب أي انفراجة للأزمة الاقتصادية الحاصلة في سوريا، والتي رغم معاناتها من انعدام المحروقات، إلا أنها ضربت أيضاً عملة البلاد، إذ اقترب سعر صرف الليرة السورية من حاجز 6000 ليرة مقابل الدولار الأميركي الواحد صباح أمس الأربعاء، كما لا تلوح أيضاً أي خطط إسعافية معلنَة من جانب الروس والإيرانيين، رغم أن وسائل إعلام في طهران تحدثت مطلع تشرين الثاني الماضي، عن أن إيران رفعت كميات النفط الخام المورد إلى النظام السوري، وفق آلية "الخط الائتماني" من مليونين إلى ثلاثة ملايين برميل شهرياً بقرار من الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، لمساعدة النظام في تجاوز أزمة الطاقة التي تعانيها مناطق سيطرته، بعدما استقبل الأسد في السادس من أكتوبر الماضي، في وقت أعلن فيه وزير التجارة وحماية المستهلك السوري عمرو سالم أنه، ومنذ 57 يوماً لم يدخل النفط إلى البلاد.

آخر المبادرات العربية والتي جاءت من دولة الإمارات كانت تتضمن دعوة بشار الأسد الى تطبيق قرارات الشرعية الدولية والجلوس الى طاولة تفاوض مع المعارضة السورية، لكنها لم تُفلح في ثني الأسد عن مراهنته على تبعيته للروس والإيرانيين.
وعندما انعقدت القمة العربية مؤخراً في الجزائر، وقفت الدول العربية بغالبيتها العظمى ضد عودة "سوريا بشار الأسد" الى الحضن العربي في الجامعة العربية، بعدما أيقن العرب إستحالة عودة الأسد الى العائلة العربية في ظل مراهناته على الروس والإيرانيين، وهو أساساً لم يعد يملك حرية قراره بعدما احتلت إيران نظامه وأرضه وألحقته بأجنداتها الإقليمية والدولية.

تعتبر إيران وروسيا من أبرز البلدان المصدّرة للنفط والغاز، ومع ذلك لم ينعكس هذا المسار التجاري على نحو كبير وإيجابي باتجاه لسوريا، والتي تنتشر قواتهما فيها، بينما تعمل شركاتهما في قطاعاتها الحيوية أيضاً،
ورغم التداعيات السلبية اقتصادياً التي فرضت على موسكو منذ بدء غزوها لأوكرانيا، وخاصة فيما يتعلق بصادرات النفط والغاز، إلا أنها لم تسجّل رسمياً أي توريدات لحكومة النظام السوري قبل هذه الفترة

في المقابل، وفي حين تعلن طهران أنها تورّد بالفعل المحروقات للنظام السوري، إلا أن الكميات التي تعلنها، وخاصة ملايين البراميل شهريا لم تؤكد وصولها حكومة الأخير، بينما أعلن وزير التجارة فيها قبل أيام أن النفط لم يصل منذ 57 يوما ما يعني أن البلدين الحليفين انتقلا من مرحلة التصدير والبيع الى مرحلة التمنّي أن بشتري أي أحد يشتري نفطهما.
النفط الروسي يُباع بأقل من سعره العالمي، وكذلك الأمر بالنسبة لإيران، منذ سنوات وبسبب العقوبات، من هنا فإن كل من إيران وروسيا اقتنعتا بأن النظام في دمشق غير مستعد لتقديم أي تنازل سياسي من أي نوع ممكن قد يؤثر على قبضته في المستقبل، وبالتالي لن يتحسن الوضع الاقتصادي كون الأمر سيؤدي إلى نفور من المستثمرين والدول الغربية التي تفرض عقوبات لن تقبل بمساعدة النظام، ولذا بدأ تعنّت الأسد يؤثر على علاقاته بحليفيه، الأمر الذي سيؤدي الى استمرار إحجام البلدين الحليفين له عن دعمه جدياً، فيما ممثلو النظام السوري يتشدقون بحقيقة أنهم لا يرغبون في الاعتماد على قروض من إيران، لكن في الواقع يعطي نظام الأسد جميع المشاريع إما للأوليغارشية التي توافق على دفع الضرائب للاستثمارات التي يسيطر عليها الأسد، أو للإيرانيين أنفسهم.

وعلى الرغم من أن روسيا وإيران وقعتا اتفاقيات إقتصادية واستثمارية مع حكومة النظام السوري على مدى السنوات الماضية، إلا أنها لا تبدو فاعلة ومؤثرة في انتشال سوريا من أزمتها الحادة الى الآن وربما على الدوام، الى أن تخرج كل من روسيا وإيران من عنق الزجاجة العالقتين فيها حالياً.

يبدو النظام في دمشق على طريق السقوط وإن بعد حين …

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: