جاء اغتيال أيمن الظواهري، رأس تنظيم القاعدة، ليلقي أضواء عدة على أكثر من صعيد إقليمي آسيوي، خصوصاً وأن العملية تمت في أفغانستان التي انسحب منها الأميركي ذليلاً منذ عام، وبالتزامن مع زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي الى تايوان، متحديةً كل التهديدات والتحذيرات الصينية بما شكّل انعطافة كبيرة في السياسة الأميركية للمنطقة.
وفيما يلي تحليل الحدثين وما بينهما:
بدايةً يمكن القول إن مقتل الظواهري أعاد للأميركيين شيئاً من المعنويات والمصداقية اللتين تعرضتا لانتكاسة خطيرة عند انسحابهم من أفغانستان ،لتبيّن بعد مرور عام على ذاك الأنسحاب أن بإمكان واشنطن أن تستمر في ضبط عقارب الساعة الأفغانية “عن بعد”، وقد جاء بيان البيت الأبيض أول أمس والموجّه الى حركة طالبان بوجوب الخيار بين الإلتزام بمسار اتفاق الدوحة أو اختيار مسار آخر يعارضه المجتمع الدولي بمثابة إنذار شديد للحركة وتحذير من مغبة عودة نهجها الإرهابي والداعم للإرهاب في المنطقة، الذي لم يعد يتوافق مع ما بعد مرحلة ١١/٩ التي أسدلت الستارة عليها إعتباراً من قمة جدّة وما تلاها.
كذلك شكّل مقتل الظواهري رسالةً إضافيةً لإيران مفادها أن عصر استخدام التطرّف، سواء السنّي أو الشيعي، قد انتهى مع انتهاء تداعيات ١١/٩، وأن إيران لم يعد بإمكانها الرهان على أوراق التطرّف الإقليمي في أجندتها ” اللادولتية ” الإقليمية، بسقوط العوامل الإرهابية الخارجة عن المنظومات الدولتية أو ما يُعرف بالدول الوطنية في المنطقة.
والملاحظ أنه، بعد مرور ٢٤ ساعة على إعلان مقتل الظواهري، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية موافقتها على صفقة بيع أنظمة باتريوت للمملكة العربية السعودية بقيمة ٣ مليارات دولار، ما يُفسر أمرين أساسيين : الأول عودة مراهنة واشنطن على الحليف السنّي القوي في المنطقة، والثاني قطع الطريق أمام إيران ومحاصرتها جيو استراتيجياً.
فطهران التي تفقد أدوات التطرّف الديني في محيطها، كما تركيز واشنطن على مصالحها معها، وتفقد أيضاً وهج “الغول الصيني” الذي عجز عن منع نانسي بيلوسي من زيارة تايوان رغم كل مظاهر القوة والتهديد، كل هذا بالتزامن مع انتفاضة شيعة العراق الصدريين ضد حضورها ونفوذها، كلها أوراق تساقطت بين ليلة وضحاها وبسرعة فائقة، ما يعني بدء خطة التفاف على المحور الشرقي مع انغماس روسيا في حرب أوكرانيا مع الغرب وعدم قدرة الزعيم الصيني على خوض حرب أو مواجهة مفتوحة مع الأميركيين لأسباب سياسية داخلية في الصين.
لا نغالي إن قلنا بأن مفاعيل قمة جدّة بدأت تظهر رويداً رويداً على أرض الواقع الإقليمي الآسيوي بمجرد موافقة الرئيس بايدن على إعادة رسم شراكة أميركية – خليجية جديدة تُسقط كل التحفظات والإختلافات التي اعترت العلاقات بين الدول المعنية، فنشهد كل يوم وجهاً من أوجه تداعيات القمة وما نجم عنها من رسم استراتيجيات جديدة، تعني في ما تعنيه غلبة النهج الخليجي العربي على النهج الإيراني.
ما يحصل حالياً هو بكل بساطة تحوّل الحسابات مع الأميركيين من إيران الى الخليج وعلى رأسه المملكة العربية السعودية، فسقط رهان أوباما على إيران لمصلحة الرهان مجدداً على الحلفاء العرب التقليديين.
القاعدة التي أرادت هدم العلاقات بين واشنطن والرياض هي نفسها اليوم التي تم تدميرها وتتم تصفيتها من رأس هرمها، وإيران التي أرادت منذ ١١/٩ جرّ واشنطن الى ملعبها وترك الورقة السنّية في المنطقة هي نفسها اليوم المحاصَرة والمطالبة بالتخلي عن دورها التخريبي والداعم للمنظمات المتطرّفة، وقد وقعت بين حركة مقتدى الصدر في العراق وطالبان غير الحليفة لها بعد اليوم في كماشة خانقة تزيد من عزلتها ومحاصرتها الجيو سياسية.
وحركة طالبان التي كانت على علاقة مع القاعدة بعد ١١/٩ لن تكون بعد اليوم طالبان نفسها وقد فككت واشنطن تلك العلاقة الجهادية الإرهابية بين الطرفين واستفردت بطالبان اليوم لوضعها أمام الخيار بين استمرار إتفاق الدوحة أو العزلة القاتلة دولياً، وبالتالي العقوبات والفصل السابع ، مع ترجيح كفة زيادة التعاون بين طالبان وواشنطن على قاعدة اتفاق الدوحة.
على صعيد زيارة نانسي بيلوسي لتايوان وبنفس الوقت الذي فيه قتل الظواهري، تتجلى استراتيجية الديمقراطيين في اكتساب مزيد من الأوراق الرابحة لتحسين حظوظهم في الإنتخابات النصفية المقبلة في تشرين الثاني المقبل بدءاً من مواقف واشنطن في حرب أوكرانيا، مروراً بقمة جدّة، وصولاً الى قتل الظواهري وزيارة بيلوسي لتايوان، وبالتزامن مع تأمين ظروف فوز الرئيس الصيني في مؤتمر الحزب الشيوعي المقبل في شهر تشرين الثاني أيضاً، فالتناغم التكتيكي والغموض الاستراتيجي لطالما شكّلا سمات السياسة الأميركية الخارجية خصوصاً تجاه القوى الكبرى في العالم والمنطقة.
إيران اذاً في عين الإستهداف الأميركي بموازاة تقدّم العلاقات مع الخليج وحركة طالبان الخارجة من تحالفات ١١/٩ ، وهنا تبرز الفرصة التاريخية أمام مقتدى الصدر الثائر على العباءة الإيرانية كي يمد يده للأميركيين لإبرام اتفاق شبيه بالاتفاق الموقّع بين واشنطن وطالبان في الدوحة.
من جهة أخرى، يمكن القول إن واشنطن عبر زيارة بيلوسي لتايوان ترسل تحديين مباشرين : الأول للصين والثاني لكوريا الشمالية، وربما لكوريا الشمالية قبل الصين نظراً لكون بيونغ يانغ أساس التطرف الإقليمي النووي ضد حلفاء واشنطن، وبيجين لا يروقها كثيراً جنوح الزعيم الكوري كيم جونغ ايل نحو الحرب والتوتير الإقليمي في بحر الصين، وقد استنكرت كوريا الشمالية الزيارة معتبرةً إياها تدخلاً في الشؤون الداخلية للصين ببيان يمكن تفسيره بالكلاسيكي نتيجة عدم رغبة صينية في الذهاب الى مواجهة مباشرة مع واشنطن.
تغييرات جيو سياسية ضخمة تشهدها المنطقة وحتى بحر الصين، وواشنطن التي تواجه بشكل غير مباشر روسيا في أوكرانيا ، تنفذ وعدها بعدم ترك فراغ استراتيجي لروسيا أو الصين أو إيران في غرب آسيا أي الشرق الأوسط، ومداها مفتوح من تايوان وبحر الصين الى المحيط الهندي وصولاً الى بحر الخليج.
وكلمة السر في واشنطن : تفكيك المحور الشرقي بجعل كل مكوّن من مكوناته ينهمك في حساباته الذاتية ومواجهة ملفاته المتراكمة، مع إعطاء الأولوية في لحظة حرب روسيا في أوكرانيا لمحاولة إبعاد الصين عن روسيا، ومن هنا كان رأي البنتاغون ووزارة الخارجية الأميركية ومجلس الأمن القومي الأميركي الرافض لزيارة بيلوسي في هذا التوقيت الذي فيه تمارس واشنطن سياسة تحفيزية لجذب الصين اليها وإبعادها عن روسيا، علماً بأن المصالح بين واشنطن وبيجين متشابكة إقتصادياً بحيث تكفي الإشارة الى شراء الصين سندات الدين الأميركية بمليارات الدولارات لنفهم حدود لعبة التنافس بين القوتين، فلا من مصلحة واشنطن القطع مع بيجين ولا من مصلحة بيجين إضعاف واشنطن والقطع معها،
مع الإشارة الى مفارقة هامة من نتائج العولمة التي زادت من تشابكات المصالح والحسابات الدولية، وهي أن الصين وحتى الآن إمتنعت عن بيع السلاح للرئيس فلاديمير بوتين، بما يؤكد التناغم الصيني الغربي وتحديداً الأميركي في أكثر من ملف وموضوع.
وعلى هذا الحبل المشدود، تدور فصول مسرحية التنافس ومعها الصراعات الدولية لإعادة خلط أوراق إقليمية، لا سيما في الشرق الأوسط حيث شعوبه أول المستهدفين حالياً وربما المستفيدين لاحقاً.