بعدما رحل عملاق السياسة الخارجية الأميركية السابق هنري كيسنجر، بقي منه الكثير الكثير ليُقال عنه وعن مدرسته الديبلوماسية في العلاقات الدولية والتخطيط الاستراتيجي، وللتعلّم من تعاليمه وفكره الجيو سياسي المميز.
“شيطنة” كيسنجر بناءً على أحكامٍ ساذجة
ما يهمّنا في هذا المقال التركيز على أبرز توجّهات هذا الرجل وأبرز ما سجّله من مواقف لا تزال تجد في زمننا الحالي ترجمات لصحتها وصوابيتها.
كيسنجر رحل ولكنه باقٍ بأفكاره وكتبه ومواقفه الشهيرة وإرثه السياسي بحيث لا يمكن لأي باحث أو متمرّس في السياسة الدولية الديبلوماسية والتاريخ إلا أن يقرأ لهذا الرجل.
على مدى عقود، جرت “شيطنة” كيسنجر ومعظم محاولات شيطنته بُنيت على أحكام ساذجة كونه يهودي وكذلك وصمه بالصهيوني، وهو ليس قدحاً عند اليهود إذ إنه كمَن يصف عربي بالعروبة قومياً أو وطنياً.
لو لم يكن يهودياً لكان معارضاً للسامية
كيسنجر خدمَ ثماني سنوات كوزيرٍ للخارجية الأميركية ومستشارٍ للأمن القومي، وبسبب قراراته وآرائه أصبح عدواً لمعارضي الحروب، حتى أهله اليهود الليبراليون والمحافظون هاجموه كما سخر منه المجتمع المحيط به، وهو قال يوماً “لو لم أكن يهودياً بصدفة الولادة لكنت معادياً للسامية.
وعندما احتدم الجدل ضد إسرائيل على خلفية خرقها اتفاق الهدنة مع مصر عام ١٩٧٣ قال عن قومه اليهود : “شعب يُضطهد لألفي عام، لا بدّ أنه ارتكب فعلاً سيئاً، علماً أن كيسنجر كان من المتحمّسين لدعم باكستان والدفاع عنها ضد الهند، ليس لأنه مع المسلمين ضد الهندوس بل لأن مقتضيات المصالح كانت ضد السوفيات آنذاك، فباكستان كانت ضد السوفيات فيما الهند كانت متحالفة مع موسكو والنظام الشيوعي.
كيسنجر المعارض لمنظور المصلحة الأميركية العليا
بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، شارك كيسنجر في جلسة سرّية لمركز السياسات الدفاعية في البنتاغون، وهو مجلس يضمّ كبار المسؤولين الأميركيين السابقين واللاحقين، وحضره آنذاك كلٌ من كولن باول وزير الخارجية ودونالد رامسفلد وزير الدفاع، حيث طُرحت على المشاركين في ذاك الاجتماع سياسة جديدة تصنّف السعودية دولة عدوة ومسؤولة عن أعمال القاعدة، وأوصت تلك السياسة باستهداف السعودية عسكرياً واقتصادياً، فعارض كيسنجر التوصية مستغرباً كيف يستسهل الحضور جعل دولة حليفة لأميركا كالسعودية بلداً عدواً، وقد أدت مداخلته الى إفشال ذاك الاجتماع .
موقفه هذا من السعودية لم يأتِ حباً بها بل كخبير كان يُدرك فداحة الخطأ من منظور المصلحة الأميركية العليا،
ومن أشهر تعليقاته : “ربما من الخطر عليك أن تكون عدواً لأميركا، لكن الخطر الأكبر أن تكون صديقاً لها .
صانع الاستراتيجيات التي لا تحترم النظم الديمقراطية
كيسنجر كان الوحيد الذي كسب ثقة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، والذي كان محسوباً على موسكو وأقنعه بمهمة فصل القوات التي جعلها بعد ذلك اتفاق سلام دائم حتى يومنا هذا، وكانت مقولته الشهيرة : لا حرب من دون مصر ولا سلام من دون سوريا، وقد أكدت
العقود المتعاقبة صحة مقولته هذه .
كان كيسنجر صانع استراتيجيات لا تحترم النظم الديمقراطية، فكان يتساءل لماذا يتفرّج المرء على بلدٍ يتحوّل الى الشيوعية لأن أهله بلا مسؤولية .
من هنا كان موقفه الشهير بأن الأمر أهم من أن يُترك لشعب جمهورية تشيلي أن يقرّر ضارباً عُرض الحائط قرارات الكونغرس في تلك الجمهورية، ويومها كان الاشتراكيون يسيطرون على الكونغرس والرئاسة في جمهورية التشيلي وتآمر كل من نيكسون وكيسنجر والجيش التشيلي على إسقاط الرئيس التشيلي الذي قُتل منتحراً في قصره. وكانت المسائل آنذاك تندرج في إطار الحرب الباردة بين الأميركيين والسوفيات، وكانت واشنطن تعتبر أميركا الجنوبية حديقتها الخلفية ومستعدة لفعل أي شيء لمنع السوفيات من الدخول الى تلك الحديقة بعد فقدان دول كثيرة في العالم.
السيطرة على الموارد حجر سياسة كيسنجر
نفطياً، كان هنري كيسنجر يعتبر النفط سلعة حيوية أهم من أن تُترك بين أيادي العرب، وكاد خطر النفط عام ١٩٧٣ أن يتسبّب في هجوم أميركي على السعودية، فنظرية السيطرة على الموارد لطالما شكّلت حجر زاوية سياساته وهو القائل “إن مَن يسيطر على الغذاء يسيطر على الناس، ومَن يسيطر على النفط يسيطر على الطاقة، أما مَن يسيطر على الدولار فإنما يسيطر على العالم.
لا وجود للمعتدلين في نظام إيران
إنتقد كيسنجر الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر لكونه تخلّى بحسب تصاريحه عن شاه إيران واصفاً كارتر بالرئيس الضعيف، واتهمه بالسماح بوصول الخميني الى حكم إيران، وهو كان يقول رداً على طروحات الاعتدال لدى الإيرانيين إن “الايراني المعتدل هو الذي نفذت ذخيرته في إشارة واضحة الى عدم وجود معتدلين في نظام إيران .
سياسيات كيسنجر الواقعية
أهمية سياسات كيسنجر واستراتيجياته أنها كانت واقعية، ونحن اليوم في هذه المنطقة نعيش على الأوهام والتخيّلات والشعارات و”العنتريات” الإعلامية والدعائية، وندّعي بأننا نبني سياسات أين منها واقعية سياسات هنري كيسنجر .