مع رفض الرئيس الأميركي جو بايدن الحاسم لمطلب طهران رفع الحرس الثوري عن لائحة المنظمات الإرهابية واعتبار المفاوض الأميركي في الملف النووي روبرت مالي طلب إيران خارج الموضوع النووي، وبالتالي مستوجب الرفض ملوحاً بالعودة الى لغة العقوبات على الجمهورية الإسلامية إن لم تبادر لإنعاش المفاوضات، إنطلقت "أول صفّارة" نهاية فترة السماح الأميركية والإقليمية والإسرائيلية في وجه طهران.
وأولى نتائج رفض إزالة الحرس الثوري عن لائحة الإرهاب اعتبارها وميليشياتها أهدافاً لمكافحة الإرهاب، وبالتالي إيذاناً بمتابعة اصطياد قياديي وكادرات الحرس والميليشيات التابعة له ومن ضمنها الحشد الشعبي في العراق وحزب الله في لبنان.
المعطيات بدأت تنقلب في المنطقة وبوادر التغيرات الكبرى بدأت تسلك طريق بلورة صيغة حوكمة جديدة مرتكزة الى ثلاثة أركان أساسية: العرب أي الخليج، ومصر والأردن، وإسرائيل وتركيا.
فالخليج، وعلى رأسه المملكة العربية السعودية، يدعم بقوة حركة التغيرات الحاصلة في بلدان "الهلال الإيراني" بدأ من العراق حيث خسرت إيران أكثريتها البرلمانية كما في لبنان في وقت اصبح فيه الحوثيون في وضعية لا تمكّنهم من متابعة حربهم العبثية في لحظة انشغال إيران في مواجهة تحدياتها الداخلية والخارجية.
تركيا من جهتها تبحث عن إنشاء منطقتها الآمنة بعمق ٣٠ كلم شمال سوريا، مستفيدة من غياب القوة الروسية الداعمة لبشار الأسد والقوة الإيرانية التي تتولى إسرائيل تصفيتها في سوريا تمهيداً لضربة ما قد توجهها للعمق الإيراني، إن لم تكن عسكرية فاستخباراتية أو سيبرانية.
فسوريا في عين العاصفة كصندوق بريد أولي لإيران نفسها حيث النظام في دمشق يقع بين فكي كماشة تركية شمالاً والأردن جنوباً ( الذي يجهد ملكه من أجل إبعاد الخطر الجهادي الإيراني عن حدوده الأمر الذي يفسر لنا محاولات إيران استهداف أمنه واستقراره ونظامه الملكي مؤخراً وردّة الفعل الملكية والحكومية الأردنية بقطع دابر الفوضى ومكافحة عمليات التهريب اليه من الحدود السورية).
منذ يومين زار وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو إسرائيل لأول مرة منذ ١٥ عاماً وأطلق سلسلةً من التصريحات أبرزها قوله إن الأجندة الإيجابية مع إسرائيل تساعد على حل الخلافات، ما يعني توحّد الرؤيتين الإسرائيلية والتركية حيال ملفات المنطقة أو أقله التنسيق بينهما بشأنها.
إسرائيل من جهتها والتي يُنظر اليها على أنها المتعهدة الوحيدة المفوّضة مواجهة إيران عسكرياً سواء في سوريا أو حتى في قلب الجمهورية الإسلامية بدليل عمليات الاغتيال المتتالية لقيادات في الحرس الثوري بالتزامن مع ضرب إيران وميليشياتها في سوريا، تدرك تماماً حجم التفويض الأميركي وتوقيته وقواعده وشروطه.
إيران الغارقة في أزماتها الداخلية وانتفاضة الشعب الجائع والاقتصاد المتدهور ترسل رئيسها إبراهيم رئيسي الى سلطنة عُمان لبحث التنازلات التي يمكن لطهران تقديمها لمنع ضرب الحرس الثوري الذي، اذا حصل يعني بكل بساطة ضرب استقرار النظام الإيراني الداخلي والخارجي معاً،
وإن كانت لا تأبه كثيراً باستئناف مفاوضات فيينا كونها تسارع في الوقت الضائع لإنجاز برنامجها النووي والذي لم يعد يحتاج لأكثر من ستة أسابيع لبلورة القدرات النووية الا أن الجمهورية الإسلامية تسعى لعدم الاعتداء على مشروعها الإقليمي بضرب يدها الطولى أي الحرس الثوري، ما يؤكد حقيقة أن ما كان يهمّ إيران من الاتفاق النووي : الإفراج عن الأموال والأرصدة والاعتراف بالحرس الثوري أكثر من ضبط وتقييد برنامجها النووي لأنها تريد تحسين شروط التفاوض بوصولها الى العتبة النووية وهي على قاب قوسين أو أدنى من تجاوزها الى التخصيب المتقدم.
فرفض الإفراج عن كافة الأموال والأرصدة الإيرانية من قبل واشنطن ورفض إزالة الحرس الثوري عن قائمة الإرهاب حوّلا الاهتمام الإيراني الى بيع نفطها للصين والهند لتأمين مداخيل مالية تعوّض لها مع ارتفاع سعر برميل النفط قسماً من أرصدتها المجمّدة، فيما بقيت عقدة الحرس الثوري عالقة.
فإصرار الأميركيين والغرب، وبضغط خليجي عربي إسرائيلي، على إبقاء الحرس الثوري الايراني على القائمة وبخاصة فيلق القدس يعني أن ساعة إنهاء المشروع التوسعي أو ما يُعرف بمشروع تصدير الثورة قد حانت وبالتالي حان وقت إضعاف إيران وشلّها وبتر أذرعها أي ميليشياتها الإقليمية، وربما سقوط نظامها اذا أخذنا بالإعتبار أن تركيبة الدولة الإيرانية مزيج من نموذج دولي ونموذج ثوري، وكلا النموذجين مستند الى الآخر فإن سقط واحد منهما يتهاوى الآخر وبخاصة جناح الثورة المتجسد بالحرس.
طهران مطوقة حالياً في العراق ولبنان وقريباً سيبدأ تطويقها في سوريا، الأمر الذي ينبىء بتغيرات جذرية في خريطة الحسابات والتحالفات والمصالح الإقليمية والدولية في المنطقة، كل هذا على وقع نتائج وتداعيات حرب روسيا في أوكرانيا التي وإن حقق الرئيس الروسي بوتين فيها تقدماً ميدانياً وانتصارات عسكرية الا أنه يعمّق في المقابل عزلة غربية ودولية لن تستطيع موسكو تحملها على المدى المتوسط والبعيد خصوصاً وأن مناورته السياسية بالمقايضة بين سوريا وأوكرانيا فُضحت وسقطت إذ لم يستطع احتلال أوكرانيا كلياً وإسقاط نظامها كما كان يريد، ولم يستطع السيطرة على الورقة السورية كلياً لأن الإيرانيين زاحموه عليها والأتراك وإسرائيل والخليجيين .
لا تطبيع مع بوتين ولا مع بشار ولا مع خامنئي، هذه حالياً كلمة السر الجديدة عشية زيارة الرئيس بايدن للمنطقة،
فعلاقات بايدن مع حلفاء الشرق الأوسط، وفي طليعتهم المملكة العربية السعودية بدأت تتحسن بعد فشل استراتيجيته بعزل وإضعاف المملكة ودول الخليج والتي باتت اليوم لاعباً أساسياً لا يمكن الاستغناء عنه في مواجهة تحديات الأزمة الدولية الحالية، كما أن حاجة أميركا للمملكة إزدادت أهمية لمواجهة معادلة الغاز والنفط.
في المقابل بعد حرب أوكرانيا الراهنة، انسحبت روسيا وباتت سوريا "في العراء" وقد أدرك الرئيس بوتين أن الربط بين سوريا وأوكرانيا لا يقوم وأن ما قام به من تدخّل في سوريا غداة خسارة أوكرانيا عام ٢٠١٤ للمقايضة لاحقاً لم يجده نفعاً أقله حتى الآن.
وعليه ستعود سوريا الى مرحلة ما قبل غزو بوتين لها مع ما يعني ذلك من عودة الخطر على بشار الأسد ونظامه.
في شهر آذار ٢٠٢١ حصل اجتماع أمني مهم جداً في العقبة ضم الأردن ومصر وسوريا وتركيا ودول الخليج وروسيا، لكن اليوم سوريا وروسيا خرجتا منه فيما يستمر التنسيق والعمل بين الدول الباقية ومع إسرائيل لإعادة إعمار سوريا واستثناء إيران منها وإجراء تغييرات في النظام السوري وإنشاء مجلس قيادي انتقالي يحل محل بشار الأسد.
وللحديث تتمة …