بداية، لا بد من الحديث عن ظاهرة الإرتباك الإيراني الواضح في ما يختص بمسار طاولة مفاوضات الدوحة : فمَن يتابع مواقف إيران قبل انعقاد الجولة الأولى من التفاوض في الدوحة يلاحظ أن تلك المواقف شدّدت، في تبرير العودة الى التفاوض بأن الاتفاق النووي حاجة أميركية بسبب تأزم الولايات المتحدة داخلياً وخارجياً، وحاجة أوروبا التي تعاني من مأزق في النفط والطاقة، ما يحملنا على طرح السؤال البديهي : والحال هذه لماذا تستعجل طهران التفاوض والاتفاق مسرعة لإنقاذ الولايات المتحدة وأوروبا المأزومتين كما تقول، بدل أن تستغل هذا التأزم لإضعاف خصومها في الإستكبار العالمي وتركهم يضعفون بدل تلبية حاجتهم؟
والسؤال الإستطرادي الآخر : اذا كانت الولايات المتحدة الأميركية، كما يقول الخطاب الإيراني، هي العامل الرئيس لزعزعة إستقرار المنطقة، فلماذا تتبرّع طهران لإنقاذ هذه الدولة المزعزِعة لهذا الإستقرار والمهددة لمصالحها؟
واذا كانت أميركا تحتاج للتسوية، فلماذا تهرول إيران للتفاوض والتسوية؟
هذه الاسئلة فرضتها الوقائع والظروف والمواقف الإيرانية التي أحاطت بالإعداد للجولة الأولى من التفاوض التي استضافتها دولة قطر الشقيقة، وقد عكست مؤشرات أولية الإرتباك الإيراني الذي ضاعفته بعد فشل الجولة الأولى البيانات والتصاريح الرسمية المتضاربة بين المراجع الإيرانية : ففي حين أعلن الحرس الثوري ووكالة تسنيم فشل الجولة الأولى وانتهاء المفاوضات في الدوحة، سارعت وزارة الخارجية الإيرانية الى نفي الفشل وتوقّف المفاوضات والتأكيد على استمرارها.
والجدير ملاحظته في هذا السياق التفاوضي أنه، وبعدما كان إدراج بند رفع الحرس الثوري عن قائمة الإرهاب أساسياً للتفاوض، عادت طهران في الدوحة وقبلت بتنحية هذا البند جانباً لبحثه مستقبلاً بعد التوصل الى الاتفاق، علماً أن هذا البند مرفوض من واشنطن كما من أوروبا حتى الساعة، ما يعني تنازل إيراني للشروط الغربية وليس انتصاراً لإيران كما تردّد أبواقها ووسائل إعلامها.
هذا كان قبل وأثناء الجولة الأولى من التفاوض في الدوحة، أما بعد انتهاء الجولة الى “لا نتيجة” فقد ظهر الإرتباك لا بل التناقض الإيراني في المواقف بشكل جلي،
وما زاد من علامات هذا الإرتباك ردود الفعل بعد توقف الجولة الأولى في الدوحة، وتحوّل الخطاب من توصيف الى توصيف مناقض تماماً، إذ وبعدما كان الاتفاق والعودة للمفاوضات حاجة أميركية وغربية، اذا بتهم فشل الجولة الأولى تُرمى على الأميركيين بتحميلهم مسؤولية فشل المفاوضات في الدوحة لأنهم لا يريدون الاتفاق …
كل هذه الوقائع تحملنا الى القراءة الآتية :
لم تكد تنطلق منصة التفاوض الأميركية- الإيرانية في دولة قطر حتى انتهت الجولة الأولى بفشل أُعلن من دون أية تحفظات.
المسعى الأوروبي من أجل إحياء التفاوض على اتفاق نووي باء بالفشل بسبب عدم استعداد أي من الطرفين المتفاوضين لإنجاز اتفاق.
فإيران أمام معضلة : عودتها الى طاولة التفاوض سيرتّب عليها نتائج وعدم عودتها سيرتّب عليها تداعيات .
فإنهيار المفاوضات النووية سيعني انكشافها سياسياً وديبلوماسياً بعدما انكشفت نووياً بعد “مضبطة اتهام” الوكالة الدولية الأخيرة في حقها، ما يعني خضوعها الحكمي للبند السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
واذا عادت للمفاوضات فإنها لا تثق بإمكان أن يضمن الديمقراطيون التزاماً نهائياً بأي اتفاق في حال وصل الجمهوريون مجدداً الى السلطة عشية الإنتخابات النصفية، وبعد انتهاء ولاية الرئيس بايدن، فضلاً عن أن الديمقراطيين سيفرضون على طهران عقوبات ضخمة عند البحث عن الوجود الإيراني في المنطقة وبرنامج الصواريخ الباليستية والميليشيات، وهذا أمر لا تقبل به طهران لأنه بكل بساطة يعني انتهاء النظام الإيراني، وبالتالي فإيران أمام خطرين : في حال عدم عودتها الى المفاوضات ستواجه تشكل تكتل إقليمي ضدها، وستُضطر للإنتقال من المعسكر الروسي الصيني الى المعسكر الغربي للتسوية، الأمر الذي يصعب عليها قبوله.
فشل منصة الدوحة أمس في جولتها الأولى يؤكد صعوبة العودة للتفاوض مع الأميركيين، وقد اعتبرت وزارة الخارجية الإيرانية أنهم لا يراعون مصالح إيران الحيوية فيما الحقيقة أن الفشل له سببان :
الأول أن أي اتفاق نووي أو تفاوض لا يمكن أن يتم الا بمباركة عربية خليجية، الأمر الذي ينتظر القمة الخليجية واستقبال الرئيس الأميركي جو بايدن في منتصف الشهر المقبل.
والثاني أن المطلوب من إيران، كما المطلوب من الأميركيين غير قابل للتطبيق في هذه اللحظة الدولية والإقليمية الحرجة من التصعيد وحاجة الغرب الى الإقتصاد والطاقة وحسابات الفريق الديمقراطي عشية انتخابات التجديد النصفي في الولايات المتحدة.
طهران تعيش هاجس تشكّل قوة إقليمية موجهة ضدها قد تهدد نظامها، ولذا حاولت ولا تزال منع تشكّل هذا التكتل وذلك من خلال مزيد من الديبلوماسية والانفتاح على المملكة العربية السعودية ودول الخليج وإطالة أمد الهدنة في اليمن والتفاوض مع الخليجيين والعرب حتى في ملفها النووي.
القوة العسكرية لمليشياتها وحرسها الثوري لم تعد كافية لضمان تماسك النظام وصموده بعد المتغيرات الدولية وتداعياتها، ولذا تحاول إيران اعتماد أسلوب الديبلوماسية الخارجية الفعالة،
وهذا ما يفسر تغيّر اللهجة الإيرانية في الأسابيع والأيام القليلة الماضية والى الآن، وقبول طهران منطق المهادنة مع الأميركيين، والتنازل عن مطالب أساسية وحيوية لها، وعملها الدؤوب على تسريع عودة المفاوضات النووية وإبداء الإستعداد لخوضها، وموافقتها على منصة الدوحة وتصاريح المسؤولين الإيرانيين المنخفضة السقوف والمهادنة والمبدية للإستعدادات الطيبة مع دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية .
لكن الجميع في المنطقة يعلم أن السياسة الإيرانية مكشوفة وغير صادقة لأن طهران تتقن اللعب المزدوج، ووزير خارجيتها أمير عبد اللهيان الذي يتظاهر بتغيير سلوك بلاده، يدرك كما قيادته أن الطوق الإقليمي والدولي يضيّق الخناق على طهران.
الأوروبيون من خلال مفوض السياسة الخارجية جوزف بوريل، يسعون باستمرار من أجل إحياء اتفاق نووي، وقد تكلّف بوريل عناء زيارة طهران للدفع باتجاه انعقاد اجتماع منصة الدوحة بعد مناقشات مضنية مع الجانب الإيراني .
الأوروبيون بحاجة للطاقة من إيران ولذلك يريدون فعل المستحيل لتقريب إيران من المعسكر الغربي، والتقريب هذا لا يتم الا من خلال البتّ بالملف النووي الذي يستلزم منصة جديدة عربية تصيب أهداف عدة في آن إقليمياً واقتصادياً وسياسياً.
لكن الذي حصل بعد إطلاق منصة الدوحة أن الأوروبي اصطدم بعدم حماسة كلي الطرفين : إيران تخشى الاتفاق كما تخشى عدم الاتفاق، والأميركيون الديمقراطيون لا يريدون اتفاقاً نووياً جديداً مع إيران عشية انتخابات التجديد النصفي قد تهدد بفقدان أكثريتهم في الكونغرس.
طهران تستشعر الإستهداف من حلف الناتو الإقليمي الجديد وإسرائيل في أطار استهداف الغرب لمحور روسيا- الصين.
وما يزيد من تعقيد الملف الإيراني، تصاعد التطرف داخل إسرائيل ضد إيران وبرنامجها النووي، الأمر الذي يقابله الإيرانيون بتشدد يصل الى حد الدفع بالتخصيب الى نسبة ٩٠./. تمهيداً لإنتاج القنبلة النووية، وانسحاب طهران من معاهدة عدم إنتشار الأسلحة النووية، ما يعني دخول المنطقة في مواجهة عسكرية لضرب المنشآت النووية.
إنها معضلة إيران النووية، لا بل معضلة التفاوض على الملف النووي الإيراني، فالوضع الإقليمي على وقع الوضع الدولي مفتوح على الإحتمالات كافة، وقد يكون أحلاها مرّ .