في حياة السياسة تتضافر أحياناً ظروف معلومة لإعطاء نتائج غير متوقعة في توقيتها وماهيتها.
مَن يقول مثلاً إن واشنطن الديمقراطية، وأمام الإحراج الكبير الذي تعيشه عشية الانتخابات النصفية واشتداد الضغط الجمهوري على الديمقراطيين في الحملة الانتخابية المتوقع تكللها بنجاح الجمهوريين، لا تقدم على فعل أي شيء من أجل استعادة المبادرة وخلط الأوراق، سواء في سياساتها الخارجية أو حتى الداخلية كمثل إعطاء الضوء الأخضر لضرب البرنامج النووي الإيراني.
مثل هذا الاحتمال يزيد يوماً بعد يوم على وقع عقارب ساعة الانتخابات النصفية وانفضاح أمر طهران في تزويدها روسيا بالمسيّرات وقريباً جداً بالصواريخ الباليستية، وتعالي لهجة التهديد والوعيد الأوروبي والأميركي ضد نظام طهران في هذا الصدد وآخرها تهديد ووعيد المستشار الألماني أولف شولز لطهران وطلب كييف من حلفائها الغربيين ضرب إيران، بالتزامن مع استمرار الاحتجاجات الشعبية في الداخل الإيراني وسقوط هيبة الملالي ونظام المرشد وصورته.
وعلى بعد ساعات معدودة على الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي، وبعد أيام معدودة من عودة بنيامين نتانياهو الأشد عداءً للبرنامج النووي الإيراني، تحدث للرئيس جو بايدن لأول مرة وبصورة علنية عن مسألة تحرير إيران من احتلال نظامه، ومن أن الشعب الإيراني سيحرر بلده في إطار حملته الانتخابية التي يقوم بها تحضيراً لمنازلة 8/11 النصفية.
اللافت في كلام بايدن أنه ولأول مرة يتحدث عن احتلال إيران وعن دور الشعب الإيراني في تحرير بلده، ما يعني تغيّر "كلمة السر" لدى الديمقراطيين لضرورات المعركة الانتخابية لإظهار قدرة الديمقراطيين على التشدّد تجاه حكم الملالي لقطع الطريق أمام الجمهوريين في استعادة نهجهم المماثل ضد النظام الإيراني وبرنامجه النووي،
فهل بات ضرب البرنامج النووي الإيراني مباحاً لضرورات السياسة الداخلية الأميركية لا بل الكباش الداخلي الأميركي حول ملفات المنطقة والعالم ؟
يبدو أن ثمة أمر ما قد تغيّر في البيت الأبيض خلال الأيام القليلة الماضية، وهذا التغيّر يعني فيما يعنيه انتهاء البحث عن تفاوض على النووي الإيراني ومعه اقتراب ساعة معالجةٍ مختلفة لهذا الملف وبخاصة عسكرياً.
المناورات الأميركية- الإسرائيلية المشتركة الأخيرة، والتي حاكت مهاجمة المواقع النووية الإيرانية، لم تأتِ من قبيل الصدفة ولا هي جاءت بصورة روتينية بل كانت بمثابة رسالة واضحة للقيادة الإيرانية بأن وقت المناورات الديبلوماسية قد انتهى، وأن وصول نتانياهو في إسرائيل والجمهوريين الى أكثرية برلمانية سيغيّر قواعد الاشتباك الإقليمي ما لن يعود بإمكان الديمقراطيين تجاهله، مما سيؤدي الى سيرهم في تجربة القوة هذه.
ردّ الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي على كلام الرئيس بايدن حول تحرير إيران جاء معبّراً جداً عن نظرة نظام الملالي لمسألة حرية إيران وتحرّرها، إذ رد عليه قائلاً بأن تحرير إيران حصل منذ 43 عاماً، وهي مصممة على أن تكون أسيرة لبايدن وللأميركيين.
هذا الرد أظهر بوضوح الاختلاف الجذري في طبيعة المواجهة المقبلة بين رؤيتين: واحدة تعتبر النظام الإيراني نظام احتلال اقترب وقت إزالته (الأميركيون كما الفرنسيون والبريطانيون خير من يعلم بطبيعة هذا النظام المسخ الذي زرعوه هم عام 1979 في المنطقة من دون أي مبرّر تاريخي وخارج أي سياق منطقي للأحداث)، وأخرى تعتبر أنها هي التي قادت معركة التحرّر من الغرب وبخاصة من الأميركيين وأن ما تعيشه اليوم هو حريتها من خلال نموذج نظامها الديني.
قمة مجموعة السبع التي انعقدت في ذات الفندق والقاعة حيث أُبرمت معاهدة وستفاليا الشهيرة عام 1648، والتي كان لها الفضل في إنهاء أنظمة الحكم الدينية في التاريخ القديم وكانت إيران طبقاً أساسياً على طاولة المحادثات هذه القمة.
توقيت ومكان القمة مؤشرات تُرسل عن طبيعة المرحلة المقبلة التي تشي بتغيير ما في سياسة الغرب تجاه البرنامج النووي الإيراني باتجاه التصعيد العسكري الحازم.
يجب أن لا يغيب عن بالنا بالطبع أن روسيا عرضت على النظام في إيران المساعدة في تصنيع أول قنبلة نووية إيرانية مع ما يعنيه ذلك من تخطي طهران الحدود الحمر التي وضعت لها منذ الأساس في البقاء تحت العين الغربية في برنامجها النووي.
رغم كل الأكاذيب التي أطلقها النظام الإيراني حول عدم رغبته وعدم هدفه تصنيع قنبلة نووية إلا أن الحقيقة هي أن طهران سعت ولا تزال ومن تحت الطاولة، الى اكتساب القنبلة النووية الشيعية، كما سعت ولا تزال الى تقوية وكلائها الإقليميين من حزب الله والحشد الشعبي والحوثيين وسواهم، الأمر الذي تنبّهت اليه الإدارة الأميركية ومراكز القرار الاستراتيجي في واشنطن، وقد تضمنت الرؤية الاستراتيجية الأميركية للملفات الدولية الساخنة التي أصدرتها واشنطن مؤخراً الخطوط الاستراتيجية لمعالجة النووي الإيراني ووكلاء إيران في المنطقة من باب إنهاء دورهم وضربهم وإضعافهم.
وقد أضيفت الى تلك الخطة مواجهة قمع النظام الإيراني لشعبه ما يعني مساعدة الأخير في انتفاضته الشجاعة ضد نظام الملالي بالتزامن مع معلومات غير مؤكدة عن بروز تيار من داخل النظام لا يرى ضيراً من سنّ قوانين تحدٍ مثل لبس الحجاب، ظناً من هؤلاء أن المسألة في إيران لا تزال مسألة حجاب في وقت بات الشعب يريد الحرية وتغيير النظام في الأقطار الإيرانية والشعوب والأقاليم كافة.
تطور الأحداث وترابطها يجعلنا ندرك أن الانسحاب الأميركي من أفغانستان، على علاته شكلاً ومضموناً وانخراط واشنطن والأوروبيين في دعم أوكرانيا ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كانت له نتيجة واضحة : ضرب الحلف الصيني- الإيراني- الروسي .
وبالفعل ومنذ قمة سمرقند الأخيرة تبيّن أن روسيا لا تستطيع الاتكال على انخراط صيني في الحرب ضد الغرب، كما تبيّن لإيران أنها لا تستطيع التعويل على الصين في مواجهتها عقوبات وضغوطات الغرب، ما دفع كلاً من روسيا وطهران الى الانغلاق على نفسيهما بتحالف ثنائي عقيم بات خطراً عليهم وعلى الآخرين،
فخروج إيران بتعاون وثيق مع روسيا سواء في حرب أوكرانيا أو في مساعدتها على تطوير برنامجها النووي، هو الفخ المنتظر وقوع طهران فيه كي يصبح أمر إسقاط برنامجها النووي حتمياً ولو بالقوة.
وهكذا وبموازاة حلف غربي ضد الرئيس بوتين في أوكرانيا يبدو أن الأمور متجهة نحو حلف غربي ضد النووي الإيراني لتفكيك برنامجها النووي، الأمر الذي سيعني حكماً ضرب النظام نفسه وإسقاطه.
هكذا توصّل النظام في إيران الى قناعة بأن أفضل ضمان له للبقاء هو في الإسراع بامتلاك السلاح النووي بعدما بدء رفع الغطاء الغربي عنه، وطهران اليوم تسعى بكل الاتجاهات وبحالة هستيرية الى التمكّن من أي خيار يطيل عمر نظام الملالي وهنا الخطورة بالموضوع لا سيما اذا ما ارتأى الملالي، ومن أجل كسب الوقت والهروب الى الأمام الاعتداء على أقرب الدول المعادية لها، بدءاً من دول الخليج وبخاصة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات بموازاة تثمير علاقاتهم بالرئيس بوتين من أجل تسريع توصلهم الى قنبلة نووية تقيهم خطر السقوط.
النظام الإيراني في خطر … ومعه أمن المنطقة بحسب صحيفة التايمز … فهل سباق الوقت الجهنمي ينهي نظام إيران بإنهاء ملفها النووي خاصة بعد فشل سياسة العقوبات؟