تقاطعت في الآونة الأخيرة مؤشرات عدة على بداية أفول سيطرة الجمهورية الإسلامية في إيران على أوراقها الإقليمية، ومنها اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل والذي هو قبل اي شيء اتفاق بين حزب الله وإسرائيل مهما قيل، ورغم النفي والمحاولات الميؤوسة للحزب للتنصّل من دوره ومن موافقته على اﻻتفاق، وصولاً الى الثورة الشعبية في الداخل الإيراني، والتي بلغت حداً غير مسبوق من التأزم والخطورة على مصير النظام.
طبعاً سقوط النظام في إيران ليس بالأمر اليسير وسيكلف الكثير الكثير من الدماء والتضحيات، ولكن الأكيد أن مَن أتى بهذا النظام بدأ منذ الآن باستشراف المستقبل عند سقوطه، خاصة وأن الدور الذي كان منوطاً به في المنطقة قد نفد وأدّى للغرب كل الخدمات التي كانت مطلوبة منه، من زعزعة للدول العربية وتهديد لدول الخليج وتقسيم النسيج الإجتماعي السياسي في كل بلد من البلدان التي يحتلها عبر ميليشياته ووكلائه، سواء في فلسطين أو لبنان أو سوريا أو اليمن أو العراق، مروراً بتهديد أمن واستقرار الأردن ومصر، ودعم الحركات الإرهابية السنّية والشيعية في المنطقة.
هذا الدور بدأ يضعف ويتّجه نحو نهاياته بعدما بدأت قواعد اللعبة الإقليمية تتغيّر منذ فشل "الربيع العربي" وعودة النواة العربية الصلبة الى الواجهة في مواجهة المشروع الإيراني، ونعني بها محور الرياض- أبو ظبي - القاهرة - المنامة، بحيث لم يتمكن نظام الملالي من استكمال المخطط الغربي الذي كان مرسوماً للقضاء على الدول العربية وأنظمتها وتغيير معادلات الحوكمة في تلك الدول، والتي كان الرئيس باراك أوباما قد اندفع في إحجامها وذهب الى حد التحالف مع الإيرانيين على حساب الأنظمة العربية الحليفة الكلاسيكية لواشنطن منذ اتفاقيات كوانسي.
من هنا، وفي المعلومات أن ثمة لقاءات أميركية - فرنسية تجري مع المعارضة الإيرانية في باريس لمحاولة استكشاف المرحلة المقبلة، وﻻ سيما مرحلة ما بعد سقوط نظام الملالي، بما يحفظ للدول العربية مصالحها مع إيران ويضمن عدم حلول نظام جديد معادٍ له إن لم يكن خاضعاً له.
نظام الملالي استنفد أهدافه ودوره، والغرب يشعر بقرب انتهاء النظام الخادم له لاسيما وأن آية الله الخميني خرج من فرنسا بغطاء أميركي - بريطاني، فرنسا تلك التي بالنتيجة كانت أكثر الدول الغربية تضرراً من نفوذ نظام الملالي لكونه سحب منها دولتين هامتين لباريس في المنطقة، لبنان والعراق، واللتين لطالما تميزتا بعلاقات تاريخية هامة مع باريس.
العاصمة الفرنسية تستعد حالياً ﻻستضافة أكبر مؤتمر للمعارضة الإيرانية بالتزامن مع تصاعد وتوسّع الثورة داخل إيران فيما الأميركيين الذين استنفدوا مصالحهم التخادمية مع الملالي بالتنسيق مع البريطانيين الذين صنعوا المرجعية الشيعية باتوا على قناعة بأن دور ومهام النظام في إيران لم يعودا ذات أهمية مع تبدّل أوراق التوازنات والمصالح بخاصة منذ اندلاع حرب أوكرانيا.
هذا الغرب الذي أسس التشيع في المنطقة العربية بات مستشعراً بضرورة البحث عن بديل لنظام الملالي المتهاوي ولو بخطى بطيئة إنما أكيدة، وهذا التشيع لطالما كان منطلقه التاريخي بلاد الفرس لأن إيران لم تكن يوماً سنّية المذهب على عكس ما يدّعيه البعض خطأ أو عن قصد، ف "الحشاشين" الذين سكنوا قلعة العقاب والذين حاولوا اغتيال صلاح الدين والدولة الأيوبية تمركزوا في إيران وكذلك "القرامطة" خرجوا من بلاد الفرس على سبيل المثال.
الغرب يريد نظام الملالي ما بقي هذا النظام يخدمهم ولا يتحول الى عبء عليه ولا يريد الثورة الإيرانية ضد نظام طهران، ولذا يحجم عن دعم تلك الثورة الى الآن بالشكل المطلوب، ولكن وفي نفس الوقت بدأ هذا الغرب يقتنع بقرب سقوط هذا النظام وغياب أية إمكانية لدعمه، ليبقى وفي أروقة القرار الغربي جو استعداد لمواجهة ما بعد نظام الملالي وتداعيات سقوطه.
الغرب، وبحسب أكثر من مصدر ديبلوماسي واستخباري غربي، لم يعد يرى أية إمكانية لمعالجة النظام في طهران، ولا وسيلة ناجعة كي يبرأ ولا طريقة متاحة لخروجه من المأزق الداخلي الذي يتهدّده، ما دفع بهذا الغرب نفسه الى التحسّب للآتي من الأيام، وفي المعلومات الشخصية المؤكدة أن الأميركيين طرحوا نقاطاً عدة على المعارضة الإيرانية، ومنها التخلص الكلي من البرنامج النووي وإقامة دولة مدنية كاملة في إيران بعد انهيار النظام الحالي.
يبقى أن الإشكالية المطروحة أمام عواصم القرار أن الخطر الذي قد تواجهه إيران في حال سقوط النظام الديني وعدم تمكن المعارضة من استلام زمام الحكم يتمثل في خطر التقسيم، خاصة وأن الإرث السياسي الذي سيخلفه نظام الملالي ثقيل وثقيل جداً، وهو مليء بالفرز الطائفي والمذهبي والعرقي والإتني، بحيث أن الدماء التي يستبيحها النظام الحالي في الزوايا الأربع من البلاد تزيد من صعوبة استمرار إيران واحدة حتى بعد سقوط نظام الملالي، وهذا الخطر يشغل عواصم القرار الغربي ويحتل أولوية تلك العواصم في تخطيطها لما بعد سقوط النظام الديني.
النظام الإسلامي في إيران على طريق الزوال، وهذه حقيقة استراتيجية تحتل كواليس القرار الدولي في هذه الأثناء، وما يحصل في كواليس القرار الغربي يشي بتغيّر روزنامة الدول التي رعت نظام الملالي منذ العام ١٩٧٩ رغم النفي المعلن والسكوت الديبلوماسي، الا أن المقبل من الأيام والأسابيع كفيل بإثبات هذه الحقيقة، وبالتالي فإن اﻻحتلالات الإيرانية في الدول العربية المحتلة بدأت مؤشرات تراجعها، والمسألة مسألة وقت وتدحرج كتلة الثلج من مدن إيران الى عواصم الدول العربية المحتلة من نظام الملالي ووكلائه .
نظام الملالي في حالة تخبّط داخلي كبير وهو يصارع من أجل البقاء مهما كلفه ذلك من دماء وحروب وصدامات ولو تخطّت حدود الدولة الى المحيط، وبالتالي من الطبيعي أن نشهد تصعيداً إيرانياً في كل الاتجاهات، كما في الملف النووي وفي الغطرسة الإقليمية من تخصيب اليورانيوم إلى درجة نقاء 60 في المئة في موقع فوردو النووي، الى تزويد موسكو بالمسيّرات لاستخدامها ضد
أوكرانيا ومَن وراءها، من أميركا الى أوروبا شركاء إيران في منصة فيينا ورعاتها تلك المنصة التي توقفت كلياً، وفي المعلومات أن طهران تستعد لتزويد موسكو بمسيّرات تستطيع حمل أسلحة وحتى تصنيعها لديها، كما تعهّدت بمدّها بصواريخ باليستية قصيرة المدى وصواريخ أرض - أرض، لتدعيم مخزونها من الذخائر الموجهة بدقة وصولاً الى الاعتداءات على السفن في الممرات الحيوية والتهريب، وشحن الذخائر التقليدية المتطورة عن طريق البحر، لدعم الحوثيين في اليمن وقصف كردستان العراق، فيما الاحتجاجات الشعبية تتصاعد
ويقمعها النظام بالدم والنار.
نظام إيران قد يُقدِم على أية مغامرة غير محسوبة اذا اشتد الطوق حوله عنقه وصولاً الى مهاجمة المملكة العربية السعودية نفسها،
فعندما تبدأ الدول الكبرى التي أتت بنظام الخميني بالتفكير في بديل عنه علينا أن نتوقّع انقلاباً في الحسابات والمشهديات وإعادة خلط أوراق تغيّر من واقع ومعادلات المنطقة والعالم .