هل تتحول حرب أوكرانيا الى منازلة روسية - أوروبية ؟

صور-علم-اوكرانيا-20228

لطالما استقرت في العقل الباطني الجماعي فكرة ضعف اﻻتحاد الأوروبي في مواجهة التحديات متحداً متضافراً وآخرها الحرب الروسية في أو كرانيا، في ظل ما يظهر بين الفينة والأخرى من انقسامات حول مواضيع الطاقة والدعم المباشر لأوكرانيا وتولي الوﻻيات المتحدة الأميركية قاطرة التصدي الغربي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إﻻ أن الحقيقة هي أن اﻻتحاد الأوروبي أثبت حتى الآن أنه، وعلى الرغم من ضيق أزمة الطاقة وتصاعد النقمات الشعبية في دوله، إﻻ أنه قادر وﻻ يزال على تولّي زمام المبادرة في مواجة موسكو وتداعيات الحرب في أوكرانيا.زعماء أوروبا اجتمعوا يومي الخميس والجمعة الفائتين وخرجوا بقرارات أقل ما يُقال عنها أنها وجّهت تحدياً مفتوحاً ومباشراً للرئيس بوتين، حيث قررت القمة الأوروبية تقديم ٩ مليارات دوﻻر لمساعدة أوكرانيا، وأهمية هذا القرار تكمن بأنه جاء في ظل الوضع اﻻقتصادي الأوروبي المتأزم وأزمة الطاقة وحاجة كل دولة للأموال لإنفاقها الداخلي في فصل الشتاء.كما وجهوا رزمةً من الإجراءات المشدّدة لخفض الأسعار التي تلتهم الأسواق الأوروبية، محمّلين روسيا المسؤولية عن أزمة الطاقة وتداعياتها، في وقت أقر البرلمان الألماني مئتي مليار يورو لأسعار الطاقة.هذه القرارات الأوروبية على مستوى القمة فاجأت المراقبين بصرامتها وقوتها وﻻ سيما في تحديها الرئيس بوتين ومخططاته الفصلية التي من ضمنها رهانه على إخضاع الأوروبيين على أبواب فصل الشتاء الأمر الذي ردّه قادة اﻻتحاد، ذاهبين الى المزيد من الصمود والتشدّد في مقاومة بوتين ومؤازرة كييف.من الناحية الجيو سياسية، يلعب الأوروبيون ورقة "دمقرطة " روسيا، والرئيس بوتين ربيب النظام الشيوعي أيام اﻻتحاد السوفياتي لم يرَ يوماً أوروبا على بابه أمثل نموذج له ﻻعتماده خوفاً من تأثير الديمقراطية في روسيا على نظامه واستمراريته، وهو تحالفَ مع الرئيس دونالد ترامب في تحجيم اﻻتحاد الأوروبي وحاول مراراً وتكراراً التدخّل بين الدول الأوروبية لتفريق بعضها عن البعض الآخر، مستميلاً تارةً دولة أوروبية شرقية سابقاً من هنا أو دولة حليفة من هناك أو نظام حكم قريب من التطرّف اليميني من هنالك، إﻻ أن كل المحاوﻻت باءت بالفشل كما فشلت مخططات موسكو إبّان دخولها أوكرانيا، وأبرز ما تضمنتها من احتلال كامل لأوكرانيا وصولاً الى العاصمة كييف لتغيير النظام وضم أوكرانيا كاملةً اليه خلال فترة زمنية وجيزة، فيما الحقيقة التي تقضّ مضجع زعيم الكرملين حالياً هي في أن العملية الخاصة دخلت شهرها التاسع من دون تسجيل أي انتصارات ذات قيمة على أي من جبهات القتال، ﻻ بل تراجع وتوقف عمليات الهجوم وخطر خسارة خرسون في ظل الجهد الأوكراني الجبار في استعادة المنطقة، فهل اﻻتحاد الأوروبي قرّر الوقوف في وجه بوتين وتحديه؟اذا كان الأمر كذلك فهذا يعني تطور الحرب في أوكرانيا باتجاهات أكثر دراماتكية وصعوبة على الروس، لأن وقوف أوروبا رزمة واحدة واستمرارها في دعم كييف يُفشل ويُجهض أهداف بوتين اﻻستراتيجية بتركيع أوكرانيا، وهو الأمر الذي يفعله حالياً من خلال إغراق أوكرانيا في الظلام التام بفعل قصفه البنى التحتية الأوكرانية وأهمها محطات توليد الكهرباء.وهذا يعني أيضاً عدم قدرة بوتين على تقسيم أوروبا وضربها، وبالتالي عدم قدرته على إحداث تغييرات جذرية في السياسة الأوروبية تجاه أوكرانيا ما سيستتبع مع الوقت تهديد نظامه هو في الداخل الروسي.

إن أخطر ما تتجه اليه التطورات العالمية انطلاقاً من الكباش في أوكرانيا هو أن تتحوّل الحرب، ليس فقط الى حرب شاملة، بل والأهم الى صراع أنظمة بين نظام إشتراكي شيوعي يريد إسقاط النموذج الغربي ونظام غربي رأسمالي ليبرالي يريد "دمقرطة" الأنظمة التوتاليتارية وأهمها الأنظمة الإيرانية والصينية والروسية.

"موسكو بوتين" في صلب هذه المعادلة في الصراع الدائر حالياً، وبوتين الذي لطالما أراد إسقاط النموذج الغربي على حدوده من خلال تغيير الأنظمة في قسم من أوروبا بحيث اذا فشل وهو الى الآن يبدو فاشلاً، كان الرد الأوروبي - الغربي العمل على إسقاط نظام بوتين من الداخل والخارج على السواء.وكما تريد واشنطن "دمقرطة" نظام الصين أو محاصرته وتحييده فأوروبا أيضاً تريد "دمقرطة" نظام بوتين ليستطيع التعايش مستقبلاً مع جيرانه الأوروبيين الديمقراطيين.٢٤٠ يوماً من الحرب في أوكرانيا (بين ٢٤/٢/ و٢٤/١٠ ) أي ٨ أشهر من الصراع العسكري الضروس بين الروس والأوكرانيين المدعومين من الغرب لم تكفٍ لإقناع الرئيس بوتين بضرورة تغيير توجهاته ونظرته الى اﻻتحاد الأوروبي بأنه ضعيف وقابل للإسقاط ... وهو الآن يخوض ما يشبه حرب استنزاف قد تطول من دون تركيع الأوروبيين، بحيث ستتحوّل أوكرانيا الى "فييتنام روسي" أو "أفغانستان روسية" ثانية بعد السقوط السوفياتي في أفغانستان سابقاً.الى الآن أثبتت التجربة الميدانية بما ﻻ يدع مجاﻻً لأي شك أن الطموحات الأمبراطورية للرئيس فلاديمير بوتين كانت أكبر من إمكانياته، وها هو يصرف من رصيده ورصيد كل ما بناه في خلال الأعوام العشرين الأخيرة، بما يُضعف موسكو دولياً واستراتيجياً ويجعلها كما قال هنري كسنجر لقمة سائغة في فم الصين التي بإمكانها ابتلاع بوتين لضرورات حمايته عندما يضعف الى أقصى درجات الضعف.من هنا النقاش القائم داخل أروقة اﻻتحاد الأوروبي بين ما اذا كان يجب فعلاً كسر بوتين أم اعتماد سياسة أكثر توازناً ﻻ تكسره لكنها ﻻ تحقق له نصراً كبيراً، إﻻ أن التوجه الليبرالي الديمقراطي داخل العائلة الأوروبية يبدو الى الآن هو المسيطر وصاحب القرار الأعلى.

طبعا العنصر الأميركي له دور كبير في تقوية العصب الأوروبي، وواشنطن في الواقع هي أكثر من جعلت انتصار بوتين في أوكرانيا أمراً مستحيلاً أو على الأقل في غاية الصعوبة، ذلك أن واشنطن بدعمها كييف بالأسلحة النوعية والمال والعتاد المتطور "خربطت" كل حسابات بوتين الذي كان يراهن على عدم انغماس الأميركيين والأوروبيين في الحرب بحيث يمكن السيطرة على أوكرانيا بسهولة وإنهاء مهمته بمفاجأة الغرب خلال أيام بأمر واقع جديد لم يُكتب له أن يرى النور.واللافت في هذا الإطار أن واشنطن، وفي سياق مواجهتها موسكو في أوكرانيا، تمكنت من منافسة روسيا في موضوع الطاقة لتنزع منها ورقة الضغط الروسي على الأوروبيين، ولو أن الأخيرين يشكون غلاء سعر برميل النفط الأميركي بأربعة أضعاف، إﻻ أن اﻻوروبيين يدركون صعوبة المرحلة وضرورة تأمين الطاقة مهما كان الثمن، على أن تتم تفاهمات جانبية بين الأوروبيين والأميركيين لتسوية ما في موضوع الأسعار ﻻ تُفسد في وحدة الموقف تجاه روسيا قضية.

فرنسا لم تكن أساساً تعتمد على الغاز الروسي إﻻ بنسبة ضئيلة، وألمانيا التي كانت تعتمد على الغاز الروسي بنسبة ٩٥% استطاعت أن تنهي اعتمادها عليه، وأوروبا إجماﻻً تتجه في العام ٢٠٢٤ الى التحرر الكامل من غاز بوتين، بما سيؤدي الى خسارته ٨٠% من صادرات غازه المعتادة الى السوق العالمي، فيشعر عندها بالتحوّل الأوروبي القوي الذي يفقده فعالية سلاح الطاقة.

وﻻ يخفى أن المستفيد الأول من تحوّل أوروبا عن الطاقة الروسية هو الوﻻيات المتحدة التي تكون بذلك قد سلبت الرئيس الروسي سوق أوروبا بالكامل."موسكو بوتين" في ورطة جيو سياسية واضحة تُضاف الى ورطته الميدانية على جبهات أوكرانيا رغم قصفه التدميري للبنى التحتية الأوكرانية، هذا النهج التدميري الذي يُعتبر دليلاً إضافياً على تحوّل مخططاته الأساسية الى خطط آنية انتقامية بعدما فشل في تحقيق ما كان يصبو اليه وتعرض لتطاول أوكراني على هيبته مع تفجير جسر كيرتش مؤخراً ودحر جنوده على طول جبهات الشرق والجنوب.حلفاء الرئيس بوتين أعجز من أن يساندوه وقد تبدى له الأمر جلياً منذ قمة سمركند الأخيرة حين لم يحصل على تورط صيني مباشر الى جانبه في حربه ضد أوكرانيا والغرب، وحين لم يحصل من كوريا الشمالية على دعم عسكري مباشر، كما لم يحصل من إيران على تورط مباشر في حربه الى جانبه واكتفاء طهران ببيعه مسيّراتها وما نجم عن ذاك البيع من تكاليف سياسية وديبلوماسية مع الغرب والأميركيين ستبدأ طهران بسداد فاتورتها في ظل تفاقم وضعها الداخلي واحتجاجات ثورة الشعب الإيراني ضد نظامه.يمكن القول إن أوروبا، ومنذ ٢٤ شباط الماضي، بدأت تخرج من مثالياتها وسلميتها، وقد أدرك الأوروبيون خطأ ظنونهم بأن العالم بعد سقوط حائط برلين وسقوط اﻻتحاد السوفياتي لن يعود الى الحروب التي تتهدد كيانهم وأن المستقبل هو للعمران والبناء والتقدم والنمو لتقديم النموذج الدولي الراقي، فإذا بهم اليوم يلبسون مجدداً بزات التحدي والمواجهة وفي ﻻوعيهم شبح الحربين العالميتين اللتين إجتاحتا أراضيهم وكانت أوروبا مسرحهما الأكثر دموية وتدميراً.تلك الصدمة الأوروبية وما نجم عنها من تغييرات جذرية في الفكر السياسي الأوروبي، خاصة وأن الرئيس بوتين باستراتيجيته الحربية والسياسية يحاول إحياء جدار برلين جديد وإقامة حاجز حديد كبير بين الشرق والغرب، بعدما استطاعت أوروبا التغلب على النازية والفاشية والشيوعية والقومية، اذا بها تتخذ القرار بالتغلب على "البوتينية " أو النيو - سوفياتية.

أخطر ما فعله الرئيس بوتين في تصرفه مع أوكرانيا ومن خلالها مع الأوروبيين هو أنه بين ليلة وضحاها نسف بشطبة قلم وبقرار حربي المعادلة التي كان الأوروبيون قد أرسوها مع قيام روسيا اﻻتحادية على أنقاض اﻻتحاد السوفياتي في مبدأ دمقرطة روسيا من خلال التعامل والشراكة معها اقتصادياً وفي الطاقة لإحداث التحوّل الديمقراطي الممنهج مرحلة بعد مرحلة داخل روسيا كأفضل وأسلم طريق لتقريب روسيا من أوروبا، فإذا بالرئيس بوتين يطيح بهذه المعادلة التي كانت مستشارة المانيا السابقة أنجيلا مركل راعيتها الأساسية، ويعيد عقارب الساعة الى الوراء بعيداً في مجاهل الحرب الباردة والمواجهة الدولية على الأرض الأوروبية.بات في أوروبا اليوم دولة عميقة كما في الوﻻيات المتحدة، مهما تبدّل الرؤساء وتبدّلت الحكومات والوجوه، تلك الدولة العميقة الأوروبية التي لم تعد ترى أمامها اﻻ هدف واحد : إسقاط نظام بوتين واستعادة روسيا المسالمة بشتى الوسائل الأقل كلفة، وإذا اقتضى اللأمر بأية كلفة ممكنة، وقد باتت أوروبا كلها في عين العاصفة الشتوية وأزمات الطاقة، فما بالها بعد ذلك من مسايرة روسيا وقد فات ما فات وتدبّرت صمودها ونظّمت مقاومتها ورتّبت سبل مواجهتها وتحديها موسكو.الممكن اذا أن يصبح إرساء معادلة قطع رأس النظام في موسكو ثمن استعادة السلام في أوروبا من خلال استبدال حكم بوتين بحكم ديمقراطي منفتح ومسالم، عنوان المرحلة المقبلة من المواجهة الدولية الدائرة في أوكرانيا، فهل نحن عشية منازلة أوروبية- روسية تتضافر مع المنازلة الأميركية- الروسية الجارية على الأرض الأوكرانية وقد تمتد الى خارج حدود أوكرانيا باﻻتجاهين ؟

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: