برزت منذ أيام في المناطق السورية التي يسيطر عليها النظام حركة منتفضة ثائرة على تردّي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والحياتية في مناطق نفوذ وسيطرة الأسد وجماعته.
بدايةً، دعونا نشير الى أن في سوريا حالياً مساران لا ثالث لهما :
المسار الأول هو تدخّل قوة عظمى كالولايات المتحدة الأميركية مع الاتحاد الأوروبي لتشكيل اتحاد قوى راغبة على غرار ما حصل في البوسنة والهرسك عندما تدخّلت تلك الدول بالقوة إثر فشل مجلس الأمن في تسوية النزاع وقتها، حيث كانت روسيا تعترض على قرار أممي بإنهاء الصراع، فما كان من تلك القوى الراغبة إلا أن هاجمت صربيا عسكرياً وقبضت على الرئيس سلوبودان ميلوسيفيتش وسلّمته للمحاكمة، رغم تهديد موسكو ووعيدها باستخدام السلاح النووي لمنع تلك القوى من التدخّل العسكري، وكان الرئيس الأميركي آنذاك الديمقراطي بيل كلينتون ووزيرة خارجيته مادلين أولبرايت.
هذا المسار هو الأكثر احتمالية لتطبيقه على بشار الأسد ونظامه لكن لإزاحة لا أحد يدري متى ستحصل!
من الواضح أن القوات الأميركية التي وصلت الى شرقي الفرات تريد القضاء على الدور الإيراني في سوريا من خلال المخطط العسكري الذي سبق لنا وتناولناه بالتفصيل في أكثر من مقال حول سوريا، والذي يقضي بإغلاق المعابر الشرقية لسوريا مع العراق أمنياً وعسكرياً، كما إغلاق طريق التوريد الايراني الى دمشق وحكومة الأسد.
إيران تكذب عندما تقول إن ثمة فصائل شعبية تقاوم الوجود الأميركي في سوريا، لكن الحقيقة أن لا حركات مقاومة شعبية ولا مَن "يحزنون" بل بضعة مرتزقة مدعومة من إيران ترمي بعض الصواريخ على محطة كونكو للغاز وضواحيها للقول بوجود مقاومة شعبية غير موجودة البتة على أرض الواقع.
واشنطن لم ترسل حاملات طائراتها وأسطولها وترسانتها الى المنطقة من أجل لاشيء، حتى أن زيارة رئيس هيئة الأركان الأميركية شخصياً الى شرق الفرات لم تأتِ من أجل لا شيء.
لا أحد حتى الساعة يعلم بتوقيت بدء العمليات العسكرية في شرق سوريا لكن الاستعدادات باتت على أكمل جاهزيتها بين الأميركيين وحلفائهم في المنطقة الشرقية والشمالية الشرقية.
النظام في دمشق عالمٌ بهذا المخطط ويتم التداول به في قنوات النظام حيث يتم الحديث عن هجوم متوقع شرقي الفرات وربط المنطقة بالتنف، فالبوكمال والقنيطرة والجنوب، لحصر الدولة السورية ومنطقة النظام في مربع حيث يُترك ليتهاوى لوحده مع الوقت من دون أي تدخّل عسكري مباشر ضده من الخارج.
هذا المخطط اذاً ليس من شأنه تغيير النظام في سوريا لأن الوقت الذي ستستغرقه العمليات العسكرية قد يطول وسيدفع الشعب السوري الثمن الأغلى طوال هذه الفترة.
أما في المعلومات الديبلوماسية، فلا نية لدى أميركا وأوروبا والعرب لكسر النظام في دمشق عسكرياً، بل توجد نية لخنقه مع مناطقه اقتصادياً وزيادة العقوبات عليه، بالإضافة الى تطويقه عسكرياً من خلال مخطط العمليات العسكرية شرقي سوريا، بحيث يُترك النظام ومناطق نفوذه لمصيرهم مع ترحيل العمل العسكري ضدهم لسنة أو سنتين وربما أكثر.
وبالمقارنة للدلالة، نذكّر بما حصل مع الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في العام ١٩٩٢ عند احتلاله الكويت حيث استمر في حروبه ومعاركه مع الغرب ومواجهته الحصار والعقوبات زهاء ٢٢ سنة، الى أن تم القبض عليه في حجرته الشهيرة قرب بغداد.
واشنطن تريد زيادة ضغط العقوبات والحصار على النظام من دون التدخّل عسكرياً "لقبعه" حتى يسقط تلقائياً ويتحقق مراد الشعب السوري، فخلع النظام السوري هدف استراتيجي ولكن لا موعد محدّداً ولا برنامج زمني الى الآن لتحقيق هذا الغرض.
من هنا ولدت "حركة ١٠ آب" مؤخراً في سوريا مشكّلة المسار الثاني للأزمة فيها.
الحركة هي حركة شباب ومجتمع سوري مدني قوامها أناس كانوا موالين للأسد ثم غيّروا قناعاتهم وانقلبوا عليه، وآخرين كانوا "رماديين" في مواقفهم ثم قرّروا الانضمام للحراك، وأناس كانوا صامدين لكن مع وصول الأمور الى مرحلة مأساوية لم يعد بالإمكان السكوت عنها، فتشكّلت هذه الحركة التي تتبنّى أفكاراً وطنية سيادية،
فالشباب السوري النخبوي عاد الى الواجهة بعدما تم التنكيل بهم العام ٢٠١١ واختُرقت الثورة السلمية بتيارات إسلامية وإرهابية ودول إقليمية ساهمت في إضعاف الثورة وفشلها وانقسام المعارضة، ما خدمَ الأسد ونظامه الذي لطالما اعتاش على الفوضى وتقطيع أوصال البلاد.
هذه الحركة تحمل شعارات مدنية سلمية انطلقت من قلب مناطق النظام ومن حاضنته الطائفية والمذهبية في جبلة والقرداحة لكن من دون سلاح ولا تسلّح لا بوجه النظام ولا بوجه الخصوم لهذا النظام ومن دون الخروج في تظاهرات علنية وتكرار أخطاء الثورة الأولى العام ٢٠١١، بل بالمناشير والتعبئة في الأحياء ونشر الشعارات المناهضة للنظام بما يقضّ مضجعه ويجعله في حال خوف وقلق لعجزه عن الاهتداء على وجوه وأشخاص يقفون خلف هذا الحراك الاحتجاجي.
النظام يستميت حالياً لمعرفة تفاصيل حركة ١٠ آب ومَن يقف وراءها ومَن هم أعضاؤها، وقد باشرت الاستخبارات الأسدية حملات دهم منازل الناس في منطقته وفي الساحل للتفتيش والبحث عن أعضاء في هذه الحركة من دون نتيجة الى الآن، علماً أن بشار الأسد لايمكنه قمع أبناء مذهبه كما فعل مع المذاهب الأخرى ولا يستطيع التنكيل بهم واضطهادهم وقتلهم وإعدامهم.
هذا الحراك بدأ يستقطب أعداداً كبيرة من مؤيدين لسلميته وأهدافه المدنية والمعيشية والاقتصادية ويفضي الى ديمقراطية الدولة ووحدة البلاد والخلاص من الاهتراء الداخلي المتعاظم ووقف التدخّل الخارجي وطرد المحتلّين.
والجدير ذكره أن في هذا الحراك والى جانب العلويين، هناك دروز وكرد وعرب سنّة وعلمانيين وليبراليين وشيوعيين ويساريين،أي باختصار شباب سوريين من مختلف المشارب والانتماءات والمعتقدات.
هذا الحراك تلقائي داخلي من دون أي تحريض أو تمويل أو تحريك من الخارج، وهو يقول لنظام الأسد بكل صراحة : "لا نقبل بك ولا تستطيع حكم سوريا بعد اليوم ولا مستقبل لك في سوريا وبوجودك لن تتوحّد سوريا وطالما بقيت فلن يعود شرقي الفرات ولا الشمال ولا الجنوب الى الدولة ولن يتعاون الشعب السوري لبناء دولة مستقرة بغير الانتقال الديمقراطي"، وهو ويشدّد على رفع الرواتب والعقود الظالمة ورفض بيع مقدّرات الشعب للروسي والإيراني.
لم يعد الشعب السوري يملك النفط والغاز ومحطات توليد الطاقة حتى الحق بالتنقيب عن النفط لم يعد للشعب السوري، كما أن إعادة الإعمار في المستقبل ستمر إلزامياً عبر شركات روسية وأخرى إيرانية.
الرواتب في سوريا بين ٦ و٧ دولارات، والدولار يقفز قفزات جنونية قد تتخطى ١٥ ألف ليرة سورية أو أكثر فيما الإسرائيليين مصممون على مواصلة غاراتهم التي تزداد يوماً بعد يوم وتتسّع أفقياً وعمودياً، والإيرانيين مع ميليشياتهم متشبثين بسوريا ولن يخرجوا منها إلا بعمل عسكري، فهم يراهنون على ضعف الاقتصاد الدولي والإقليمي .
اذاً هذا الحراك في سوريا، الى جانب حركة الضباط العلويين الأحرار، بارقة أمل لإسقاط النظام من الداخل وقد أدرك أهل الساحل السوري أن بشار الأسد يأخذهم الى الموت والى حرب لن تبقِ شيئاً في سوريا، في ظل أجواء حقد وطائفية واقتتال وتجارة ممنوعات ودعارة وإفلاس وفقر وسقوط التعليم وفقدان الكرامة والحرية واستباحة البلاد إيرانياً وروسياً وتركياً وأميركياً وإسرائيلياً …
هاوية مهلكة أوصلهم اليها النظام وأدركها أبناء ١٠ آب، وعلى أساس ذلك كله تحركوا، فهل يكون خلاص سوريا من الداخل على يدهم ؟ الأيام والأسابيع القليلة المقبلة قد تحمل جواباً شافياً .