هل خسرت واشنطن الخليج؟

61910187-f746-495e-bc2e-e8f05b2d3cc6 (1)

سؤال يُطرح في الإعلام والأروقة السياسية منذ الإعلان عن اتفاق بكين بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية في إيران،
ولنحيط بالإجابة من جوانب الموضوع كافةً لا بدّ من التذكير بالآتي :
أولاً - المنطقة العربية وتحديداً الخليجية لطالما كانت جمهورية السياسات، وقد شهد التاريخ السياسي للعلاقات بين الولايات المتحدة ودول الخليج محطات التوافق والتناغم التي لم تخلُ من اختلافات في المقاربات والحسابات، إنما بقي النهج السياسي الخليجي أقرب الى الجمهوريين منه الى الديمقراطيين.
ثانياً - يجب أن لا يغيب عن بالنا أن الديمقراطيين، مع وصول جو بايدن الى البيت الأبيض، رفعوا سقوف موانعهم وفيتوهاتهم على ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الى درجة لم يعد من الممكن التراجع أكثر مما تراجعوا في محطات عدة كان أبرزها زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن الى المملكة العام الماضي واضطراره للقاء ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، في رسالة واضحة من القيادة السعودية أن لا خيار أمام واشنطن سوى الحديث مع ولي العهد الذي بات القائد الفعلي للمملكة بتفويض من والده الملك سلمان وصولاً الى عودة التنسيق الأمني والاستخباري والعسكري بين الطرفين مع زيارة الوفد الأميركي أخيراً الى الرياض برئاسة روبيرت مالي، وبالتالي أصبح الديمقراطيون أسرى مواقفهم المبالغ فيها والتصعيدية مما أوقعهم في أزمة ثقة داخلية وأزمة تعاطٍ مع الرياض لا تزال الى الآن تجرّ وراءها ذيول الخيبة.
ثالثاً - محاولة الرياض أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة إفهام الحليف الأميركي أن زمن التحالف الأعمى والحصري معه قد ولّى في ظل القيادة الجديدة للمملكة، وأن للشراكة والتعاون مفهوم جديد في الرياض مبني على الاحترام المتبادل ورفض الإملاءات والاصطفافات الإقليمية والدولية لصالح واشنطن فقط، وقد سجّلت المملكة هذا النهج الجديد عبر محطتين : قرار أوبك بلاس بتخفيض الإنتاج مليوني برميل خلافاً لطلب واشنطن، وإبرام اتفاقية استئناف العلاقات الديبلوماسية مع إيران بما يؤدي الى قطع الطريق أمام النهج الأميركي في استخدام الورقة الإيرانية واستثمارها لتعزيز مصالح أميركا والغرب، وإبقاء المنطقة ساحة حرب وتجاذبات وعدم استقرار لفائدة الأميركيين والغرب وإسرائيل.

من هذه المنطلقات الواردة أعلاه، يمكن القول إن واشنطن لم تخسر المملكة العربية السعودية بقدر ما خسرت الحليف المطيع والطيّع الذي يثق بها، لا بل واشنطن خسرت ورقة إقليمية إسمها إيران، وقد استخدمتها وتلاعبت بها في مواجهة دول الخليج والمنطقة وعلى رأسها المملكة لإبقاء المنطقة في حالة عدم استقرار وساحة الحروب والفوضى،
وهذه الورقة هي التي تم سحبها اليوم من طرف الرياض.

على صعيد آخر، تجدر الإشارة الى أن خسارة واشنطن للورقة الإيرانية ترافقت مع اكتساب الصين ورقة الخليج وأساسها المملكة العربية السعودية، الأمر الذي سيحوّل المنطقة الى ساحة تنافس بين القوة الاستراتيجية العالمية أي الولايات المتحدة والقوة الاقتصادية العالمية الصاعدة أي الصين.
من هنا أهمية إبقاء التحالف لا بل الشراكة الاستراتيجية للمملكة ودول الخليج بيد واشنطن، وإبقاء التحالف والشراكة الاقتصادية والتجارية للمملكة والخليج مع الصين.

اتفاق بكين بين المملكة وإيران ليس صلحاً ولا تسويةً بل اتفاقية استئناف علاقات ديبلوماسية وفق معايير وشروط أرادتها المملكة كمقدمة تأسيسية لمرحلة ثنائية جديدة في العلاقات تطال بمنافعها وارتداداتها الإيجابية دول المنطقة كافة، وكأن الرياض أخذت على عاتقها إخراج المنطقة من دوامة الصراع العربي- الخليجي مع إيران ومحاولة إدخالها مرحلة جديدة مبنية على الاحترام المتبادل لسيادة الدول وعدم التدخّل في شؤونها الداخلية ووقف دعم الميليشيات التابعة لنظام الملالي ومنح فترة شهرين أمام إيران لاختبار مدى جدّيتها في الالتزام بما تعهدت به خطياً.

الاتفاق اذاً ليس صلحاً ولا تسويةً للخلافات، بل هو منصة يمكن من خلالها معالجة الإشكالات والخلافات وفق إطار من الحوار والعمل الديبلوماسي السلمي، وبالتالي أمام البلدين والمنطقة الكثير لإنجازه.
إيران التزمت وقف مهاجمة السعودية والإيعاز للحوثي بوقف اعتداءاته على أراضي المملكة بالمسيّرات والصواريخ، وقد انعكست هذه التهدئة في تصاريح المسؤولين الحوثيين الداعية للهدوء والحوار في الساعات الماضية.
وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان قالها بصراحة إن "الحل السياسي في اليمن هو الأفضل"، مبشّراً في مكان ما بنهاية الحرب اليمنية.

لنكن واضحين، إيران كانت بحاجة لاتفاق مع الرياض بالنظر للحظة الحرجة التي تعيشها داخلياً من خلال ثورة الشعب الإيراني ضد النظام، وإقليمياً من خلال العزلة التي تحيط بها والتهديد الأميركي- الإسرائيلي بضرب برنامجها النووي، ودولياً من خلال تركيز الغرب على مهاجمة طهران على خلفية تحالفها مع موسكو في حربها على أوكرانيا، وبالتالي إلتقطت الرياض هذه اللحظة من حاجة إيران الى "طوق نجاة" لتفرض عليها شروطها من خلال الوسيط والضامن الصيني، والتأسيس لمرحلة جديدة تتوج بانسحاب إيران من المنطقة والعودة الى وضعية دولة ذات سيادة طبيعية في علاقاتها مع جوارها والعالم.
السعودية لم تستفز الغرب بذهابها للصين بل ما فعلته من توجّه نحو الصين كان لضمان التزامات إيران في المنطقة ومعها، وبالتالي
فأمام واشنطن حقيقة تضجّ بها الصحف الأميركية والغربية : فشل سياسة بايدن والديمقراطيين في الشرق الأوسط هو نتيجة سوء علاقاته مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، فيما
يتهمه الرأي العام الغربي والأميركي بأنه غالى كثيراً مع فريقه السياسي في الاستخفاف بالمملكة وبولي العهد، ما ولّد لدى القيادة السعودية نفوراً واضحاً من بايدن وسياسات فريقه في المنطقة، وبخاصة أن المستهدف هو بالنهاية المملكة التي باتت، مع تداعيات حرب أوكرانيا وأزمة الطاقة العالمية وقيادتها لأوبيك وأوبيك بلاس، بيضة قبان الاقتصاد العالمي وليس فقط إقتصاد المنطقة.
أميركا ظهرت بعد اتفاق بكين بشكلٍ غير لائق، مكتفيةً بالقول إنها كانت على علم بالاتفاق من دون إبداء رأيها فيه سلباً أو إيجاباً، دلالةً على إدراكها سوء حساباتها وعدم توقّعها ما يمكن أن تفعله القيادة الجديدة في المملكة لصون مصالحها وليس مصالح الآخرين ومنها أميركا في المنطقة.

المملكة العربية السعودية، باتفاق بكين، أنهت تاريخ توتر مع إيران ومناوشات في المنطقة واليمن، وأثبتت قدرتها على إنهاء الحرب من دون الغرب، وبالتالي إمكانية وقف الخطط الغربية التي كانت تتلاعب باستقرار المنطقة وأمنها،
فالرياض استغلت علاقاتها بالصين بشكل بارع مستخدمةً ظروف إيران الخانقة لتقوم بحل مشكلتها ومشكلة دول المنطقة مع إيران،
والملاحظ في هذا السياق، أن ما أراده الرئيس السابق الجمهوري دونالد ترامب من تعديلات على اتفاق ٢٠١٥ حققته المملكة في اتفاقية بكين، من خلال إضافة بند يضمن عدم دعم إيران للإرهاب ووقف تهديد أمن المنطقة واستقرارها، كما وقف دورها المزعزِع لهما، ووقف دعم الميليشيات التابعة للنظام الإيراني، وهذا ما حصلت عليه الرياض في اتفاقية بكين وباتت إيران ملزمة بوقف دعم الميليشيات المعتدية على السعودية ودول المنطقة بدءاً من اليمن، والتزام إيران بعدم التدخّل في شؤون دول المنطقة والتوقف عن زعزعة الاستقرار الإقليمي.
هكذا تمكّنت الرياض من الخروج من حرب اليمن من دون مساعدة أو مؤازرة الأميركيين، وحصلت على ما تريده من إيران من دون واشنطن، ما سيؤدي الى خلط أوراق سياسات واشنطن في المنطقة وإعادة حساباتها، كما إعادة إسرائيل لحساباتها وهي التي كانت تعمل على خط التطبيع بحجة مواجهة إيران.
إعادة حسابات الأميركيين باتت ضرورة، والخاسر الأكبر هم الديمقراطيون في واشنطن، ما قد يؤثر كثيراً على حظوظهم في الانتخابات الرئاسية المقبلة، خاصةً وأن البيت الأبيض هو الأكثر عرضةً لتحميله مسؤولية ابتعاد السعودية عن واشنطن .

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: