منذ أيام والرأي العام الروسي يستعد لخطاب رئيس روسيا فلاديمير بوتين باعتبار أنه سيكون خطاباً مختلفاً تماماً عن خطاباته السابقة وهو يتوجّه الى الأمة الروسية.
أحدث التحليلات كانت قد تحدثت عن أن الرئيس بوتين سوف يعلن الحرب رسمياً على أوكرانيا، وأنه سيعطي الأوامر بالاجتياح الكبير، لكن ما حصل أن الخطاب جاء أمس بأقل من التوقّعات، وقد وصف بأنه أكثر من عادي لظرف غير عادي حيث روسيا تلعب أوراقها كافة ضد الغرب في أوكرانيا.
واللافت أن الحضور عجّ بعدد كبير من الضباط العسكريين للقوى المسلحة الروسية، الأمر الذي فُسّر بأنه مؤشر على مضمون الخطاب،
واللافت أيضاً أن توقيت الخطاب جاء بعد زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن لكييف ولقائه الرئيس الأوكراني فولو ديمير زلنسكي، ما كان ليزيد من سقف التوقعات بردّ روسي صاعق في خطاب رئيس روسيا.
بحسب صحيفة واشنطن بوست، إستغرق خطاب الرئيس الروسي مئة دقيقة لم يعلن خلاله أي حرب، ومن متابعة مضمون خطابه يتبيّن بجلاء أن الرئيس الروسي سجّل عدداً من الرسائل التي تُظهر الانغماس العقائدي للرجل في التاريخ وفكرة عظمة روسيا والفلسفة الإمبراطورية لروسيا العظمى، مستعيداً عبارات من التاريخ ومجدّداً التأكيد على أن روسيا ﻻ تُهزم في ساحات القتال.
من جهته، معهد الاي اس دبليو المتخصص في الحروب، كانت له وجهة نظر تُفسّر عدم تطرق الرئيس بوتين في خطابه الى أوكرانيا ﻻ من قريب وﻻ من بعيد، في الوقت الذي كان متوقعاً أن يتناول الأزمة الأوكرانية ويعلن قرارات كبرى، هذا المعهد المتخصص نشرَ معلومات مفادها أن ثمة تحركات ضخمة للجيش الروسي توحي بقرب حصول هجوم واسع النطاق على أوكرانيا، حتى أن الإستخبارات البريطانية أكدت معلومات الإعداد لهجوم روسي ساحق، وأن قواعد الطيران الروسي تحرّكت باتجاه الحدود مع أوكرانيا لتكون على مقربة من ساحات القتال في عملياتها.
إعلان بوتين تعليق العمل بمعاهدة نيو ستارت أي معاهدة الحدّ من السلاح النووي اﻻستراتيجي الذي وقّع بين الرئيس الديمقراطي باراك اوباما ورئيس روسيا آنذاك ديمتري ميدفيدف لتخلف معاهدة ستارت التي وقعت عام 1991 بين واشنطن وموسكو أيام اﻻتحاد السوفياتي.
من نتائج هذه المعاهدة القديمة أنها نجحت في تقليص عدد الرؤوس النووية لتصل الى 12 ألف رأس في العام 2022.
نيو ستارت اذاً الموقّعَة عام 2010 في براغ، عاصمة جمهورية التشيك، والتي دخلت حيز التنفيذ في 5 شباط 2011 كان من المفترض أن تحكم برامج التسليح النووي وﻻ سيما الصواريخ الباليستية حتى العام 2026، والمعلوم أن الرئيس دونالد ترامب كان ينوي في عهده مراجعة هذه المعاهدة لتشمل الصواريخ التي تُطلق من الغواصات لأن المعاهدة محصورة فقط بالصواريخ التي تُطلق من اﻻرض.
تعليق بوتين العمل بمعاهدة نيو ستارت تناولته صحيفة واشنطن بوست بإسهاب مشيرةً الى أن الرئيس الروسي في خطابه اعتبر أن الأميركيين يدعمون الأوكرانيين في قصف القواعد داخل روسيا، وذلك بالإشارة الى قصف أوكرانيا العام الماضي لقاعدة " أنجلز " الجوية التي تحتوي قاذفات وصواريخ نووية، وبالتالي إعتبر بوتين، ودائما بحسب واشنطن بوست، أنه ﻻ يصح أن تعمل آليات نيو ستارت في مراقبة القواعد الروسية التي تقصفها أوكرانيا بدعم أميركي سيما وأن تلك القواعد، وفقاً للمعاهدة خاضعة للتفتيش الأميركي، وبالتالي فإن أميركا باتت طرفاً منحازاً لأوكرانيا، ومن هنا لم ينظر بوتين الى أنه من الملائم الاستمرار في فتح القواعد الروسية أمام تفتيش أميركي ﻻ بل تجسّس أميركي لمصلحة أوكرانيا لتسليمها إحدائيات ومعلومات قصف المواقع الروسية.
بوتين أوضح أن التعليق ليس الخروج من المعاهدة، وقد اعتبرت واشنطن بوست أن هذا اﻻعلان ليس له تأثير قوي لأن واشنطن كانت قد أعلنت عدم التزام موسكو موجبات نيو ستارت من لحظة قصف قاعدة " أنجلز " حيث لم يعد الروس ملتزمين بالمعاهدة.
حرب أوكرانيا قضت على الثقة بين الأميركيين والروس وبالتالي ﻻ شيء يضمن، بإنتهاء العمل بمعاهدة نوي ستارت، أن ﻻ ينشب سباق تسلح نووي مخيف بين البلدين لاسيما أن العلاقات الثنائية ساءت لدرجة بات من الصعب أن تعود الى سابق عهدها، وفي ظل تصاعد مشاعر العداء بين البلدين بشكل غير مسبوق.
من هنا، فإن قرار الرئيس الروسي بتعليق العمل بمعاهدة نيو ستارت خطورته تكمن في ما سيكون عليه الوضع بعد 2026 طالما بقي تعليق العمل به من جانب موسكو إذ ان المهم ما بعد 2026 وليس الآن.
خطاب بوتين اذاً حول تعليق العمل بمعاهدة الحد من انتشار الرؤوس النووية أخطر ما تضمنه من مواقف، وقد جاء أيضاً تحت وطأة اتهامات داخلية وﻻ سيما من زعيم ميليشيا فاغنر يفجيني بريغوجين الذي لم يتردّد في اتهام الجيش الروسي وقادته بالخيانة نتيجة مشاكل بين الميليشيا والجيش الروسي على ساحات القتال، وقد تجاوز برغوجين صلاحياته لدرجة أنه بات هو الذي يعلن الإنتصارات على الجبهات بينما المفروض رسمياً أن يعلنها الجيش الروسي، وقد كشفت وكالة رويترز عن وجود خلافات عميقة بين المؤسسة العسكرية الروسية وفاغنر وقد هاجم بريغوجين البيروقراطية العسكرية الرهيبة بأنها أخّرت حسم معركة باخموت شرق أوكرانيا.
إتهامات بريغوجين تجاوزت الخطوط الحمر حين وصف قادة الجيش الروسي بالخونة كونهم يقللون المساعدات العسكرية لميليشياته ويحجمون عن تقديم الإسناد والدعم لقواته، حتى أن رمضان كاديروف زعيم الشيشان بدأ أيضاً بالشكوى ضد مَن وصفهم البعض في الجيش الروسي الذين ﻻ يريدونه أن يتقدّم على ساحات القتال، مشتكياً بدوره من عدم تلقّيه المساعدات المطلوبة.
حدود روسيا ﻻ تنتهي …. شعار من الشعارات التي رُفعت في شوارع موسكو يوم الخطاب الرئاسي المنتظر في استعادة لمواقف تاريخية تجاوزها الزمن حيث باتت روسيا أقل بكثير في عظمتها التاريخية أيام القياصرة مما كانت عليه في السابق، لكن الرئيس بوتين يبدو أنه يعاني من عقدتين : عقدة التاريخ وعقدة الجغرافيا، ناهيك عن وضعه في الداخل الروسي الأمر الذي قد يؤثر على مسار حربه، ومن هنا قد يكون سبب عدم خروجه على الشعب الروسي بقرارات عسكرية مصيرية كانت متوقّعة.