هل يستنسخ الرئيس بوتين "إيفان الرهيب"؟

Russian President Vladimir Putin chairs a meeting with members of the Security Council via a video link at the Novo-Ogaryovo state residence outside Moscow, Russia February 18, 2022. Sputnik/Mikhail Klimentyev/Kremlin via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS IMAGE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY.

إيفان الرابع أو إيفان الرهيب كان أمير موسكو العظيم وقيصر عموم روسيا الأول، وقد توّج أميراً على موسكو عام 1533(في سن الثلاث سنوات) وتوّج كأول قياصرة روسيا في العام 1547 وهو في السادسة عشرة من عمره، مما جعله حاكماً من عام 1533 وحتى وفاته.
بين عامي 1530 - 1584، خاض القيصر إيفان الرابع حروباً دموية وسٌع على إثرها أراضي روسيا وجعل منها إمبراطورية مترامية الأطراف.
عرف إيفان بلقب "الرهيب" لأنه كان يقمع بقسوة وعنف الثورات التي حدثت ضده، وهو قاد حروباً توسّعية إستعمارية إحتلالية، وأضاف مناطق شاسعة من سيبيريا إلى ممتلكاته.
حدث في العام 1553 أول خلاف له مع مساعديه، فارتكب على إثرها مجزرة في حق أكثر المقربين اليه، وقد وقع ذلك قبل أن يصبح أكثر وحشية وقسوة. أصبح إيفان الرهيب مسكوناً بعدها بالشك والارتياب من إمكانية تعرّضه إلى العقاب الصارم من جراء ارتكابه لتلك المجازر، وهذا ما دفعه لقتل إبنه عام 1582،وقد ساهمت هذه الحادثة في تحويل القيصر وحتى نهاية حياته إلى طاغية مستبد ومسؤول عن ارتكاب عدد كبير من المجازر الوحشية ولذلك سمي بالرهيب.

حالياً وفي القرن الواحد والعشرين، يبدو أن العالم على موعد مع قيصر رهيب جديد بنسخة عصرية منقحة، هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي على ما يبدو قرّر الخروج من النظام العالمي الحالي باتجاه نظام قوامه مخالفة ميثاق الأمم المتحدة وشرعة حقوق الإنسان وحق الدول بسيادتها ووحدة أراضيها.
فالرئيس بوتين لم يطرح على نفسه السؤال عما يمكن أن تستجره تصرفاته من فوضى عالمية تقضي على البشرية إن قررت دول أخرى أت تحذو حذو روسيا في اجتياح مناطق دول أخرى وإعلان ضمها بعد تنظيم استفتاء أحادي غير شرعي، والواقع الجيو سياسي العالمي الحالي مليىء بحالات مماثلة من المطالبات والإدعاءات التاريخية لشعوب تعتبر نفسها أحادياً صاحبة حق في أراضي شعوب أخرى.

فإن كان ميثاق الأمم المتحدة يقر في حق الشعوب في تقرير مصيرها، وهذا حق صحيح، الا أن نفس الشرعة ونصوصها التطبيقية تقر أيضاً بآليات أممية لتمكين الشعوب من تقرير مصيرها وليس بقرار أحادي من دولة محتلة ووفق آليات ميدانية مريبة ومشكوك فيها ومن دون رقابة أممية ولا احترام لحرية الخيار، وقد عانى المجتمع الدولي بما يكفي من انحرافات مماثلة في فلسطين والبلقان وتايوان وسواها من مناطق عبر التاريخ المعاصر.

فالرئيس بوتين بكلامه عن ولادة عالم جديد متعدد الأقطاب بهذا الشكل الذي يتصرف به في أوكرانيا إنما في الحقيقة يعلن عن نظام قد يجعلنا نندم على النظام الحالي، لأن بشائر هذا النظام الجديد الذي يتكلم عنه لا تشجع، فهو مليء بالإعتباط والتعسف واستخدام القوة العسكرية والمادية لغزو دول ذات سيادة واحتلالها، ثم إعلان ضمها بعد استفتاءات شكلية مريبة لا تراعي أبسط قواعد القانون الدولي، الأمر الذي لا يمكننا القبول به وبخاصة نحن الدول الصغيرة والمستتبعة والشعوب المستضعفة والتي عانت الأمرّين من احتلالات الآخرين وغزواتهم ومحاولات ضمهم الى دولهم، فهل ننسى نحن في لبنان كم عانينا وقاتلنا وقاومنا الاحتلالات السورية والفلسطينية والإيرانية من أجل الحفاظ على سيادتنا ووحدة أراضينا، في وقت كان ولا يزال البعض يعتبرنا مقاطعة من مقاطعات سوريا أو "دسكرة" من دساكر الضفة والقطاع أو ساحة من ساحات الصراع الإيراني- الإقليمي- الدولي.

الرئيس بوتين في ضمه لأراض أوكرانية بالشكل الذي فعله لا يخالف القانون الدولي ومبادئ حقوق الشعوب في سيادتها ووحدة أراضيها فحسب، بل أيضاً يخالف التاريخ، إذ انه بالعودة الى تاريخ أوكرانيا، لم تكن المناطق التي يعلن انضمامها لروسيا الإتحادية يوماً أراضٍ روسية بل كانت منذ البداية أراضٍ أوكرانية " روسوفونية ".

تاريخياً كانت أوكرانيا جزءاً من منطقة سيكثيا في العصور القديمة التي استوطنها الغيتيون، وكانت منطقةً للتوسع السلافي المبكر خلال موسم الهجرة، ودخلت التاريخ بشكل لائق بعد تأسيس دولة روس الكييفية، والتي برزت كدولة قوية في العصور الوسطى إلا أنها تفككت في القرن الثاني عشر. بعد منتصف القرن الرابع عشر، سيطرت ثلاث قوى رئيسية على حكم المناطق الأوكرانية :

  1. القبيلة الذهبية
  2. دوقية ليتوانيا الكبرى ومملكة بولندا، ووقعت هذه الأراضي تحت حكم المملكة البولندية وبعدها تحت حكم الكومنلوث البولندي الليتواني (ابتداءً من سنة 1569)
  3. خانية القرم (ابتداءً من القرن الخامس عشر)

وافق الهيتمان بوهدان خمل نيتس كيي على توقيع اتفاقية بيريسلاف في يناير من العام 1954، وذلك بعد الثورة التي قام بها القوقازيون ضد الكومنولث البولندي الليتواني في عام 1648.

لا تزال طبيعة العلاقة المتكونة وفقاً لهذه الاتفاقية بين دولة هتمانات القوزاق وبين روسيا محل جدل علمي.

دفعت هذه الاتفاقية لاندلاع الحرب الروسية- البولندية (1654-1667) والتي عُرفت أيضاً بإسم حرب أوكرانيا. وكنتيجة لهذه الحرب، وُقّعت معاهدة "السلام الأبدي" في العام 1686، والتي نصت على ضم الجزء الشرقي من أوكرانيا (شرق نهر دنيبر) إلى الحكم الروسي، ودُفع مبلغ قدره 146000 روبلاً للحكومة البولندية كتعويض لخسارتها الضفة اليسرى من أوكرانيا، واتفق الطرفان على عدم توقيع اتفاقية منفصلة مع الإمبراطورية العثمانية.

جوبهت الاتفاقية برفض شديد من قبل بولندا ولم يُصادق عليها من قبل السيم (البرلمان الخاص بالكومنولث البولندي الليتواني) حتى العام 1710 وطُعن في المشروعية القانونية لقرار تصديقه. وفقاً لجاسيك ستاسيفسكي، لم تُؤكد الاتفاقية بقرار من السيم حتى انعقاد مؤتمر السيم في عام 1764.

اعتبر تقسيم بولندا (1772-1795) وغزو روسيا لخانية القرم، سيطرة كل من الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية النمساوية على كل الأراضي التي تشكل أوكرانيا الحالية، واستمرت هذه السيطرة لمدة مئة عام.

ثم ما لبثت وأن اندلعت مجموعة من الحروب الفوضية في الفترة التي تلت الثورات الروسية في العام 1917. انبثقت جمهورية أوكرانيا الشعبية بعد حرب الاستقلال الأوكرانية التي استمرت لمدة بين 1917 و1921.

وبالتالي لم يكن لروسيا أو الاتحاد السوفاتي تاريخياً أي يد في أوكرانيا، الى أن اندلعت الحرب الأوكرانية- السوفيتية (1917-1921)، حيث فرض فيها الجيش الأحمر البلشفي سيطرته المطلقة في نهايات العام 1919.

أسس الأوكرانيون البلشفيون، والذين دحروا الحكومة الوطنية في مدينة كييف، جمهورية أوكرانيا الإشتراكية السوفياتية، والتي كانت من إحدى الجمهوريات المؤسِسة للاتحاد السوفياتي في 30 ديسمبر من العام 1922.

وبالتالي بدأ السطو الروسي على أراضي أوكرانيا وثقافتها وحضارتها وسيادتها منذ ذلك الحين حيث سمح الاتحاد السوفياتي باستخدام الأوكرانية كلغة رسمية للإدارة والمدارس الى أن تغيرت السياسة السوفياتية في ثلاثينيات القرن العشرين متجهةً نحو "سياسة الترويس".

عانى ملايين من الناس في عامي 1932 و1933، وخاصة الفلاحين، من مجاعة مميتة في أوكرانيا التي عُرفت بإسم "هولودومور"، وبالعودة الى موسوعة بريتانيكا فقد مات ما يقارب 6 إلى 8 ملايين شخص من الجوع في الاتحاد السوفياتي خلال هذه الفترة، و4 إلى 5 ملايين من هؤلاء هم من الأوكرانيين.

هذه الحقائق التاريخية إن دلت على شىء فعلى عدم تبعية أوكرانيا لروسيا وعدم تبعية الأراضي المعلن ضمها اليوم الى موسكو، ما يؤكد مرة أخرى عدم شرعية وقانونية الضم وعدم مشروعيته التاريخية.

في القرن السادس عشر، حكم إيفان الرهيب بالعنف والدم وأسس إمبراطوريته بالقوة الخشنة تجاه الخارج، فهل ما نعيشه اليوم في عهد الرئيس فلاديمير بوتين نسخة مخملية منقحة عن التعسف الإيفاني بقفازات ناعمة بدءاً من أوكرانيا والله يعلم الى أين يأخذنا من قال يوماً إن سقوط الاتحاد السوفياتي كان أكبر كارثة جيو سياسية في القرن العشرين.

أقل ما يمكن قوله اليوم إن العالم في مهب موسكو، فالمفاوضات والتسويات مصير حتمي لأي خلاف سياسي دولي أو داخلي، فهل من الممكن حقن مزيد من الدماء إنقاذاً لما يمكن أن يتبقى من بشرية وعصمة قانونية أممية؟ أم أننا أمام مشهد حتمي من التصعيد الذي لا تحمد عقباه، خاصة وأن السلاح النووي بني امتلاكه على عقيدة قوته في وجوده وعدم استخدامه، فهل يغيّر الرئيس بوتين تلك العقيدة؟

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: