من يراقب تطور الأوضاع في المنطقة منذ اندلاع حرب أوكرانيا الروسية الى الآن، يخرج بعد تحليل المعطيات السياسية والجيو سياسية بعدة استنتاجات متقاطعة محورها سقوط التوازنات الدولية القديمة بين اتفاقية مينسك عام ٢٠١٥ حول أوكرانيا والناتو، وبين الاتفاق النووي في لوزان عام ٢٠١٥ بموضوع الملف النووي الإيراني بسبب النظريتين الأمبراطوريتين لكل من روسيا بوتين وإيران ولاية الفقيه.فعلى الصعيد الجيو سياسي يمكننا ملاحظة ما يلي :
١- إحياء أوروبا العجوز لشبابها وتوصّلها ولو بصعوبة أحياناً الى موقف موحّد حولها ولا يزال الى قوة لم يعد بإمكان الروس التغاضي عنها، فقد أثبتت أوروبا أنها مستعدة لتضحيات مؤلمة في سبيل تلاحمها ومواجهتها الروس في أوكرانيا، كما أثبتت أنها، رغم بعض الفروقات والاختلافات الداخلية، تبقى قوة دولية إقليمية محورية تربط أوراسيا ببقية أقاليم العالم المجاورة ولها تأثيراتها القوية.فأوروبا نجحت في استعادة زمام المبادرة وتقرير مصيرها، وقد تحدث عنها الملك عبدالله الثاني في مقابلته الأخيرة الهامة على شاشة سي أن بي سي مشبّهاً وحدة أوروبا الشرق الأوسط العتيدة بأوروبا شمال البحر المتوسط.
٢- إنتهاء منطق ١١ أيلول الذي حكم العلاقات الدولية منذ ١١ العام ٢٠٠١ والى لحظة اندلاع الحرب الأوكرانية، حيث لم تعد واشنطن في موقع رسم سياسات إنتقامية وإستباقية لأمنها، بل انتقلت الى مرحلة العودة الى قيادة المعسكر الغربي في وجه الخطرَين المباشرين الروسي والصيني.وقد ترجمت زيارة وزير الخارجية الروسي لافروف لإيران منذ أيام هذا التوجه لدى المعسكر الشرقي بالتعاطي مع معطيات الملفات الدولية والإقليمية بمنطق تخالفي إقليمي استراتيجي لا يُحسب على أساس ردود الفعل بل الفعل بنفسه، ورسم خطط المواجهة بين معسكرين يتجاذبان طهران لمصلحتهما لا لمصلحة طهران فيما إيران “تائهة” في غياهب فيينا المجمّدة حتى إشعار آخر .فواشنطن، ومع اندلاع حرب أوكرانيا، أدركت أن سلامة حلفائها الدوليين الغربيين منوطة بسلامة وسيادة قرارهم، والمرتبطة بدورها بوحدة أراضيها ومصالحها الحيوية، من هنا قررت الوقوف الى جانبهم وإحياء الناتو الذي كان يعاني من موت سريري على حد كلام سابق للرئيس إيمانويل ماكرون.
– ثالثاً : توحّد كل من روسيا وإيران في مطالبة الأميركيين والغربيين بضمانات لفك حشرتهما: موسكو تطالب واشنطن وعواصم أوروبا والناتو بضمانات لانسحاب الناتو من الدول التي دخلها بعد العام ١٩٩٧ وحيادية أوكرانيا، فيما إيران تطالب بضمانات بعد إسقاط النظام من الداخل وبحفظ مصالحها في الدول العربية من خلال الحفاظ على قوة الحرس الثوري الإيراني.لكن لا الرئيس بوتين توصّل الى تلك الضمانات حتى الآن ولا إيران، وبالتالي إنغمسا في وحول أعمالهما، فإذا بروسيا تتوحّل في أوكرانيا وتُضطر للإستمرار قدماً في حربها، محاولة توسيع نطاقها مع إعلان الرئيس الروسي تسليح بيلاروسيا بصواريخ “سكندر” التي قد تحمل رؤوساً نوويةً، وحصول أعمال قصف من بيلاروسيا منذ يومين ضد أهداف في أوكرانيا، وتهديد الرئيس بوتين ليتوانيا بموضوع كالينينغراد، فيما طهران تحاول الدفع باتجاه استئناف المفاوضات في فيينا مع جوزف بوريل مفوض السياسة الخارجية الأوروبية التي زارها بالأمس إنطلاقاً من معادلة أن التفاوض يؤجل الحرب، وعدم التفاوض يعزّز فرص الحرب، ومن هنا مطالبة إيران الأميركيين بضمانات أمنية.وتجدر الإشارة في هذا السياق الى، أن الولايات المتحدة التي انسحبت من اتفاق ٢٠١٥ النووي مع الرئيس دونالد ترامب لم تعد اليها مع جو بايدن الى الآن ولن تعود واشنطن الى اتفاق ٢٠١٥.أما حلف الناتو فبات في أوج استعداداته، وسوف ينعقد في التاسع والعشرين من الشهر الجاري لاتخاذ قرارات تنفيذية وصفت بالمهمة جداً، في ما خصّ دعم أوكرانيا ومواجهة الروس.زيارة الرئيس بايدن للمملكة العربية السعودية ومشاركته في قمة مجلس التعاون الخليجي الى جانب الأردن ومصر ستكون إشارة انطلاق ما سمي ب “ناتو إقليمي شرق أوسطي” ضد إيران وميليشياتها في المنطقة، في ظل غياب أية ضمانات أمنية لإيران وعودة أميركية قوية بلغت ذروتها عسكرياً بالتدريبات المشتركة الأميركية- الأسرائيلية على حرب واسعة مع حزب الله في لبنان.فكما ذهب الرئيس بوتين الى الحرب نتيجة عدم نيله الضمانات من الناتو والأميركيين كذلك إيران ذاهبة الى الحرب.فالمنطقة عشية تكتل عسكري أمني استراتيجي سيؤسس لأوروبا شرق أوسطية تُطلق عجلة البناء والاستقرار بعد الانتهاء من المشروع الإيراني التوسعي ومن ميليشيات الطرفين الشيعي والسني على حد سواء، ومسيرة التطبيع والاتفاقات مستمرة في التقدم والاتساع تعبيداً لهذا المسار.