أوكرانيا... بين قوة الحق وحق القوة

علم-اوكرانيا

تشهد الحرب في أوكرانيا انعطافاتٍ خطيرة تُنذر ليس فقط بتوسّع الحرب والعمليات الحربية بل أيضاً بتوسّع رقعة الصدام الدولي.

في آخر الاخبار أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقًع الخميس مرسوماً بضم 137 ألف جندي إضافي الى القوات المسلحة ليتجاوز بذلك عديد جيشه المليوني جندي، وطلب من الحكومة تخصيص الميزانية المطلوبة لذلك.

هذه الخطوة تعني نية موسكو في إحداث فرق حاسم على أرض المعركة، والفرق هذا لن يقابله بنفس المستوى تجييش أوروبي لأن الأوروبيين حالياً أضعف من أن يدخلوا مباشرةً في حرب مع روسيا، وهم أساساً منقسمون حول استمرار الحاجة الى الطاقة الروسية من عدمه، وقد اقترب فصل الشتاء والمواطن الأوروبي المتعاطف والداعم للأوكرانيين قد لا يستمر متحمساً لهم بنفس الوتيرة متى داهمته وعائلته وقائع التقنين في الطاقة وارتفاع أسعارها، فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على سبيل المثال، وبقدر ما كان في السابق يواجه المشكلات والقضايا بإيجابية مفرطة أحياناً كثيرة، أصبح يتكلم بواقعية وحذرٍ و سلبية مؤثرة أحياناً أخرى، كما فعل منذ يومين لدى افتتاح أول جلسة لمجلس الوزراء الفرنسي بعد العطلة الصيفية في الاليزيه، حين أفهمَ الفرنسيين مباشرةً عبر الإعلام أن زمن الوفرة والاستهتار ولى.

على صعيد آخر، جددت روسيا اتهام أوكرانيا بقصف محيط محطة زاباروجيا النووية، وطالبت البيت الأبيض بمنطقة منزوعة السلاح حول المحطة، فيما أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إرسال بعثة للمحطة خلال أيام، في وقت اتهم فيه مجلس الدوما الروسي أوكرانيا معتبراً أن القصف المدفعي الأوكراني للمحطة يهدد بنيتها التحتية وينتهك سلامتها النووية.

أمام خطورة التطورات واتخاذها منحى ينذر بنتائج لا تحمد عقباها، حصل أول اتصال بين وزيري دفاع روسيا وفرنسا، حيث أبلغ وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو نظيره الفرنسي سيباستيان ليكورنو بأن استهداف المحطة من قبل القوات الأوكرانية يمكن أن يتسبّب بتعطيل التشغيل الآمن لها.

جاء هذا الاتصال بالتزامن مع ما قاله البيت الأبيض من أن الرئيسين الأميركي جو بايدن والأوكراني فولوديمير زيلينسكي طالبا في اتصال هاتفي روسيا بإعادة سيطرة أوكرانيا على محطة زاباروجيا.

وقالت الناطقة باسم البيت الأبيض إنه "على روسيا أن توافق على منطقة منزوعة السلاح حول المحطة النووية، وأنه يجب ألا تكون المحطة منطقة حرب أبداً، ما يعني وقوف الأميركيين الى جانب المطالبة الأوكرانية بانسحاب الروس من المحطة، وبالتالي المزيد من التصعيد الذي قد يؤذي المحطة في لحظة ما ويؤدي الى نتائج مدمرة أين منها حادثة محطة تشرنوبيل.

صحيفة "تلغراف" (Telegraph) من جهتها نقلت عن وزارة الدفاع البريطانية أن الدبابات الروسية أصبحت على بُعد 60 متراً من المفاعل الخامس في محطة زاباروجيا، فيما أبلغت أوكرانيا الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن آخر خط منتظم يوفر الكهرباء لمحطة زاباروجيا النووية التي تسيطر عليها روسيا عاد للعمل مجدداً بعد انقطاعه في وقت سابق من يوم الخميس.وفي سياق متصل، أعلنت وكالة تاس نقلاً عن مسؤول روسي الجمعة أن القوات الأوكرانية قطعت خط الطاقة الأخير الرابط بين محطة زابوروجيا وأوكرانيا.وكانت الوكالة التابعة للأمم المتحدة قد أفادت في بيان لها، أن "أوكرانيا أبلغت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بأن محطة زاباروجيا (أكبر محطة طاقة نووية في أوروبا) انفصلت مرتين على الأقل عن خط الكهرباء خلال النهار قبل اتصالها به مجددا"، مضيفةً أنه لم تتوفر بعد المعلومات عن السبب المباشر لانقطاع التيار الكهربائي.على صعيد متصل أيضاً، أعلن مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي لوسائل إعلام فرنسية عن توجه بعثة الوكالة الى محطة زاباروجيا خلال أيام، مشيراً إلى أن مخاطر وقوع حادث نووي في المحطة حقيقية، مضيفاً أن الأمور وصلت إلى نقطة لا يمكن فيها المخاطرة بحادث نووي، بالإضافة إلى مأساة الحرب.

وفي سياق موازٍ للتوتر الخطير حول محطة زبوروجيا، قُتل 25 شخصاً في قصف صاروخي روسي استهدف محطة شابلين للقطارات في مقاطعة دنيبرو (شرقي أوكرانيا) وقد برّرت موسكو قصفها بأنه استهدف مقتل أكثر من 200 عسكري أوكراني في قصف ما وصفته احتياطيات للجيش الأوكراني بمحطة شابلين للسكك الحديدية.على أرض الجبهات، لا يزال التقدم الروسي البطيء سيد الموقف شرق أوكرانيا وجنوبها فيما يبدو أن موسكو أمام حسابات استراتيجية عسكرية ليس أقلها المراهنة على فصل الشتاء لإنهاك القوات الأوكرانية وتراجع الدعم الأوروبي لكييف، وكذلك الدعم الأميركي الى أن تحين الفرصة لبدء هجوم كاسح. للأسف الشديد، بات العالم أمام حقيقة أن ثمة حرباً بين بلد اعتدى على سيادة بلد آخر ومع ذلك ستنتهي هذه الحرب ربما بفرض قوة الأمر الواقع أو ربما بالحوار، الأمر الذي يعني في كلتي الحالتين تنازلات من الطرفين وأهمها تنازل أوكرانيا عن جزء من سيادتها، والإقرار بمكاسب القوة على حساب القانون الدولي والمواثيق ولا سيما ميثاق الأمم المتحدة، الأمر الذي اذا نظرنا اليه من الناحية المبدئية فقد ينسحب على ملفات دولية وإقليمية أخرى سنشهد فيها غزوات بعناوين عقائدية أو فكرية أو سياسية أو جيو سياسية أو حتى تاريخية تنتهي بالإقرار بحقوقٍ للغازي، ما سيجر تنازل دول عدة في العالم ولا سيما في منطقة الشرق الأوسط عن جزء من سيادتها ربما، فالسؤال يُطرح في إطار معرفة هل هذه هي معالم النظام العالمي الجديد وعودة التعددية القطبية ؟

من هنا تأتي صعوبة الموقف الأوروبي تحديداً في الموازنة بين مبادئ السيادة والاستقلال وحرية الإنسان وحقوقه، وبين مستلزمات مواجهة الحرب الروسية على أوكرانيا ومن خلالها على أوروبا : فبعبارة أوضح وبغض النظر عما اذا كان البعض يؤيد الروسي أو الأوكراني أو الشرقي أو الغربي فإن ما يحصل في الواقع والحقيقة أبعد وأعمق من مجرد حرب بين دولتين أو أكثر، لأن ما يحصل يطرح على بساط البحث مجددا إشكالية قوة الحق أو حق القوة في حكم العالم وإدارة الإزمات الدولية والنظام العالمي الجديد، لأن ما يحصل في أوكرانيا كما في تايوان وفي الشرق الأوسط مع الملف الإيراني المزعزِع لاستقرار المنطقة، سواء باتفاق نووي أو من دونه مقلق جداً خصوصاً للدول الصغيرة المستهدَفة من دول جارة لها، أو من دول لها فيها أطماع، بما يقودنا الى فوضى عالمية غير مسبوقة تأتي فيها الأحداث لتُظهر تفوّق "سلطان حق القوة" على قوة الحق بحيث كما يبدو أن الحق للأقوى على المدى القصير والمتوسط كما يقول الفيلسوف وعالم الإجتماع توماس هوبز.حرب أوكرانيا أثبتت الى الآن أن ثمة علاقةً جدلية بين الحق والقوة، وهي أفضل تجسيد للجدلية التاريخية والفلسفية حول تأسيس الحق على القوة أو القوة على الحق في استعادة للجدال بين علماء الإجتماع والفلاسفة والسياسيين من هوبز الى سبينوزا الى جان جاك روسو.فهل يعود العالم الى شريعة الغاب حيث القوي يأكل الضعيف، وبالتالي يسعى الضعيف الى أن يصبح قوياً ليكسر القوي الذي يتحكّم به وينتشر السلاح وتتضاعف الحروب ؟

الأكيد أن حرب أوكرانيا لم تعد حرباً بين بلدين بل تحوّلت الى حرب باردة بين معسكرين غربي وشرقي على نار ساخنة جديدة، حيث تكمن خطورتها في أنه بالإمكان أن تتحوّل بين لحظة وأخرى الى حرب ساخنة بلا ضوابط، خصوصاً اذا قسنا حجم التورط الغربي، وتحديداً الأميركي والبريطاني أولاً في مساعدة كييف عسكرياً وسلاحاً نوعياً انتقل من تسليح دفاعي الى تسليح شبه هجومي إن لم يكن هجومياً مع ما حصل من عمليات نوعية مؤخراً في جزيرة القرم.

العالم اليوم أمام أخطر أزمة دولية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، فيما آثارها السلبية على التوازنات الدولية بدأت بالظهور في أكثر من قارة وفي طليعتها أفريقيا، وفي أكثر من معادلة إقليمية ودولية ومنها معادلات الشرق الأوسط المتشعبة والمعقدة .

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: