إتفاق الترسيم : صفقة الخديعة الكبرى

ترسيم-الحدود-البحرية

لا نفهم الى الآن كل هذه اﻻحتفاليات التي يقيمها الجانب اللبناني مع توقيع ما اصطُلح على تسميته "اتفاق ترسيم حدود بين لبنان وإسرائيل"، كما ﻻ نفهم وفق أية معايير يُعتبر لبنان منتصراً سياسياً واقتصادياً في هذه الصفقة ليتهلّل به العهد وفريقه وحلفاؤه وعلى رأسهم حزب الله؟

أوﻻً وبالإذن من السيد حسن نصرالله،إن مجرد كلامه أمس عن أن اﻻتفاق في الشكل ليس تطبيعاً يغطي على اعتبار اﻻتفاق في المضمون تطبيعاً، وهو ما لم يتطرق اليه وفي ذلك دلالة على احتواء النص والمضمون ما يعني بالتأكيد تطبيعاً مقنّعاً مع إسرائيل لاسيما وأن لغة اﻻتفاق استخدمت عبارة إسرائيل مرات عدة بدل الكيان الصهيوني.

كما أن إلغاء حالة اﻻستنفار والتعبئة لحزبه لدليل آخر على دخول لبنان زمن المهادنة واﻻنتقال الى مرحلة هدوء يمهّد لسلم طويل الأمد.

ثانياً أن ينبري نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب، وبالآذن من تبريراته وشروحاته أمام شاشة اﻻم تي في بالأمس، الى تسمية اﻻتفاق باتفاق هوكستين بالمقارنة مع اتفاقات أبراهام لدليل آخر على اعتبار اﻻتفاق في سياق اﻻتفاقات الأبراهامية المفضية الى التطبيع، وباعتبار أن المقاومة تروّج له على أنه "اتفاق المقاومة واﻻنتصار" ... أوليس هوكستين عميلاً إسرائيلياً كما وصفه محور الممانعة والمقاومة؟ ثالثاً إذا كان المطلوب إيرانياً وأميركياً إبرام اﻻتفاق لمواكبة التغيّرات التي تشهدها المنطقة والتطورات المرتقبة، فليقل ذلك بصراحة من دون التستّر والتلهي باتفاق يعطي إسرائيل أكثر بكثير مما يعطي لبنان.رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير ﻻبيد كان واضحاً أمس في تصريحه بأن اﻻتفاق إنجاز كبير لدولة إسرائيل ولأمنها واقتصادها، فهل سمع الحكم والحزب هذا الكلام الذي بقي حتى اللحظة من دون أي تعليق لبناني.ﻻبيد قالها بكل صراحة ولو أنه رئيس وزراء عدونا اﻻ أن في كلامه مصداقية تفوق مصداقية مسؤولينا اللبنانيين الذين يذرون الرماد في عيوننا للإيحاء لنا بأن اﻻتفاق صفقة ناجحة للبنان فيما العكس تماماً هو الواقع والحقيقة.إن اﻻتفاق بحسب قول ﻻبيد، يضمن أمن سكان إسرائيل الشمالية، ما يعني بصريح العبارة انتهاء حالة الحرب بين لبنان وإسرائيل، وبالتالي ليس فقط اﻻعتراف اللبناني الرسمي بدولة إسرائيل بل وأيضاً إنهاء حالة التهديد الأمني لسكان إسرائيل،موضحاً أن اﻻتفاق سياسي لأنه ﻻ يحصل كل يوم أن تعترف دولة معادية لإسرائيل بها في اتفاق مكتوب أمام المجتمع الدولي"، ﻻ بل أكثر من ذلك يضيف ﻻبيد أن اﻻتفاق يعزّز عمل إسرائيل ضد حزب الله.

وزير الأمن الإسرائيلي بني غنتس بدوره قالها بوضوح أكبر : "إن اﻻتفاق يؤمن حرية عمل إسرائيل في الساحل وكل مكان ويرسّخ معادلة أمنية جديدة في كل ما يتعلق بالبحر."كلام المسؤولين الإسرائيليين بدى بوضوح وكأنه يركّز على الناحية السياسية للاتفاق أكثر منه الناحية التقنية والنفطية والغازية، وكان تركيز مجمل كلامهم وكأنه اتفاق ضمانات أمنية لإسرائيل وتأمين مليارات الدوﻻرات للاقتصاد الآسرائيلي .ولمَن يقول إن إسرائيل كانت تنتظر اﻻتفاق للبدء بالتنقيب نحيله الى ما أعلنته تل أبيب عن أنها بدأت باستخراج الغاز من حقل كاريش قبل يوم واحد من توقيع اﻻتفاق، أي أن إسرائيل بدأت التنقيب من دون انتظار التوقيع ولم تربط أبداً التنقيب باﻻتفاق.اﻻتفاق يعني اذاً توفير الأمن الكامل للبواخر الإسرئيلية في عرض البحر، أما لبنان وبحسب تقديرات مدير عام وزارة الطاقة الإسرائيلية، فلا تتجاوز حصته ٣ مليارات دولار أميركي من حقل قانا، حيث لإسرائيل خمس الحصة بحسب اﻻتفاق، ما يعني في المفهوم التقني أقله أن حقل قانا ليس من الحقول التي تعوم على الثروة المتوقعة أو التي أُثير الضجيج حولها من الجانب اللبناني، كما أن عملية التنقيب في هذا الحقل ستمتد لسنوات قبل بدء استخراج الغاز أو الإنتاج في ظل غياب البنية التحتية اللبنانية حتى الساعة.حقل قانا مشكوك في احتمال وجوده كحقل غازي على كامل مساحته، بحسب خبراء النفط الذين ذهب بعضهم الى حد اعتبار حقل قانا حقلاً وهمياً في وجوده ومخزونه الغازي.من هنا فإن الفضيحة الكبرى والخديعة التي مورست من الجانب اللبناني في القبول باحتمالية أن يكون حقل قانا غازياً ومشاركة إسرائيل بنسبة ١٧% من كمياته في وقتٍ ﻻ يساوي فيه هذا الحقل كل اﻻساطير التي حِيكت حوله من جانب لبنان الرسمي منذ سنوات وأشهر .

لبنان وقّع اتفاقاً كمن يشتري سمك بالبحر، فإذا وفق بأن يكون حقل قانا ممتلئاً بالغاز يمكنه بأحسن الأحوال تحقيق ٣ مليار دولار مع مشاركة إسرائيل له في إيراداته، وهذا ليس للمرحلة الراهنة بل للمستقبل أي لسنوات مقبلة.هذه الفضيحة تصبح أشد مرارة عندما نتيقن من أن إسرائيل بدأت تبيع غازها منذ ما قبل اﻻتفاق، فيما نحن في لبنان نحتفل بحقل مجهول المضمون والكميات ومشكوك بأمر وجود غاز كافٍ فيه ومتشارك في قلته مع إسرائيل بنسبة ١٧% من إيراداته، ونعتبر اﻻتفاق إنجازاً تاريخياً ... وأي إنجاز هذا ...؟ وأي انتصار للمقاومة كما تدّعي أبواق حزب الله وحلفائه ؟؟؟ اتفاق الترسيم فضيحة وخديعة كبرى ستتكشف لاحقاً مفاعيله ومضامنيه المفيدة لإسرائيل أكثر من لبنان بكثير ...ما يحمل على اﻻشمئزاز من هذا "الفولكلور" الذي حصل في موضوع ترسيم الحدود البحرية أمران أساسيان :الأول أنه كشف بصورة واضحة عقم ﻻ بل غش محور المقاومة طوال سنوات وسنوات من الأدبيات والخطابات والتصاريح النارية والتهديدات في إدعاء مقاومة إسرائيل وإزالتها من الوجود، ما أوقع لبنان برمّته أسير هذا المحور الممتد من حارة حريك الى طهران مروراً ببعبدا وميرنا الشالوحي وعين التينة، وذاق ما ذاقه من أزمات وويلات وانهيارات ليعود نفس المحور، وبسحر ساحر وبفعل ديبلوماسية أميركية - إيرانية من تحت الطاولة وبين ليلة وضحاها، الى التوقيع على الاعتراف بدولة إسرائيل وإلغاء حالة اﻻستنفار والتعبئة والطوارىء ضد الذي كان يوصف بالعدو الصهيوني ... وقد حولوا لبنان الى "جيفة" وشعبه الى شعب منكوب.والأمر الثاني هو أن ما حصل كشف كذب وازدواجية المعايير لدى حزب الله الذي لطالما كان يطلق يميناً ويساراً، صعوداً ونزولاً على الدوام ويومياً، صفات التخوين والعمالة لإسرائيل على كل فريق سياسي داخلي يخالفه الرأي، فإذا به بالأمس يهرول عهده وحليفه الأول وتحت رعايته الى توقيع اتفاق ظاهره ترسيم حدود ولكن باطنه شكل من أشكال التطبيع، لدرجة تمريره تهريباً حتى من مناقشته أمام نواب الأمة رغم مطالبتهم بذلك وبإصرار.

إن اﻻتفاق هو اتفاق دولي خاضع لمعاهدة فيينا للعام ١٩٦٩ وبالتالي ليس ورقة إحداثيات تقنية وحسب كما يحاول بعض السذج من محور الممانعة الترويج له على وسائل الإعلام، بل هو اتفاق كامل ومتكامل يسمو الى درجة المعاهدة الدولية من لحظة تسجيله مع مَلاحقه لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة سواء وقّع في الشكل من وفدين تحت سقف واحد وعلى طاولة واحدة أو تحت سقفين منفصلين لكل طرف ... فالشكل ﻻ يلغي المضمون وﻻ يلغي بالتأكيد فظاعة ما وقّع وكُتب في حق لبنان .وبعد كل هذا يأتينا مَن يعتبر اﻻتفاق نموذجاً ﻻستراتيجية دفاعية ... وهو في كلامه هذا إنما يؤكد أن ما تم توقيعه ليس ترسيماً للحدود بقدر ما هو اتفاق سياسي يضمن انتهاء دور سلاح حزب الله بإعطاء اسرائيل هدوءاً وسلاماً لمياهها الإقليمية وفي حقولها، ولبحريتها الحربية والتجارية واستثماراتها اﻻقتصادية في الغاز والنفط، فيما لبنان لم يكن نصيبه من هذا اﻻتفاق أكثر من وعد باﻻستثمار والإيرادات الغازية والنفطية من مياهه إن توفرت مواد الطاقة في "حقله الميمون" .

ألم يكن أشرف لحزب الله والتيار الوطني الحر أن يجدا مع الفرقاء اللبنانيين الآخرين منذ سنوات وسنوات، استراتيجية دفاعية "لبنانية الصنع والمصدر" بدل أن يُضطرا، تحت وطأة الضغط الإيراني- الأميركي الإقليمي والدولي، للخضوع واﻻنسياق كالنعاج الى توقيع اتفاقية مباشرة مع إسرائيل بحيث ﻻ يكون هذا اﻻتفاق اتفاق نصر بقدر ما هو اتفاق إذﻻل وخضوع؟ ما كُتب قد كُتب ... وبعد اليوم ثمة استراتجية ينبغي على المعارضة لمحور إيران في لبنان انتهاجها وسياسة جديدة تبنى على خطورة ما حصل باتجاه التحرّر من قيود السلاح وخزعبلات خطابات أسياده.

المصدر:  

لمتابعة الأخبار والأحداث عبر مجموعاتنا على واتساب: