صدر بالأمس "إعلان القدس" بين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل، موقّعاً من قبل الرئيس بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي يائير ليبيد، وأبرز ما تضمنه هذا الإعلان، الى جانب الهيكل الإقليمي لدمج إسرائيل وتوسيع دائرة السلام لتشمل دولاً عربية وإسلامية أخرى، ما جاء فيه من أن واشنطن ملتزمة بعدم السماح لإيران بامتلاك سلاح نووي.
هذا الإعلان، في إشارته الى التزام واشنطن بعدم السماح لإيران بامتلاك سلاح نووي، يُعتبر تفويضاً مبطّناً من واشنطن لتل أبيب بالقيام بما يلزم اذا اضطرها الأمر من أجل الحؤول دون تملك إيران للسلاح النووي.
كذلك فإن إشارة الإعلان الى دمج إسرائيل وتوسيع دائرة السلام تتناقض مع ما جاء في نفس الإعلان من التزام واشنطن بتأمين التفوّق النوعي الإسرائيلي، إذ إنه لا يعود من مبرّر لهذا التفوّق اذا قبلت إسرائيل، وبدفع أميركي تلبية حلّ الدولتين، واعتبار القدس الشرقية عاصمة دولة فلسطين.
هذا التناقض والكلام بين السطور في إعلان القدس يحملنا على القول إن الرئيس بايدن، لو أراد لزيارته أن تنجح في تحقيق أهدافها ولا سيما هدف توسيع دائرة السلام بين العرب والدول الإسلامية وإسرائيل، فعليه أن ينتهج فكر وأسلوب سلفه الرئيس فرانكلين روزفلت حين اتفق في 14 شباط (فبراير) 1945 على متن الطراد يو أس أس كوينسي (CA-71) مع الملك عبد العزيز آل سعود، مؤسس المملكة العربية السعودية، على التأسيس الصلب لحلف تاريخي بين الولايات المتحدة الأميركية والدول العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وذلك من خلال حفظ مصالح العرب بنفس وتيرة حفظ مصالح إسرائيل.
يومها، وفي خلال المحادثات بين الجانبين، عرض جلالة الملك عبد العزيز قضية العرب وحقوقهم المشروعة في أراضيهم على الرئيس الأميركي، وذكر جلالته أن أمل العرب يقوم على كلمة شرف الحلفاء وعلى حب العدالة المعروف للولايات المتحدة، وعلى توقّع أن تدعمهم الولايات المتحدة.
فكان ردّ الرئيس الأميركي على الملك عبد العزيز بأنه يود أن يؤكد لجلالته أنه لن يفعل شيئاً لمساعدة اليهود ضد العرب ولن يتخذ أي خطوة معادية للشعب العربي.
أما اليوم فالرئيس بايدن مدعو الى موقف تاريخي مماثل يواكب الحدث التاريخي المتمثّل بزيارته للمنطقة ولا سيما للمملكة العربية السعودية في هذه اللحظة غير الاعتيادية، حيث العالم والمنطقة على كفّ عفريت، يجب عليه وهو رئيس أكبر دولة ومالك خيوط اللعبة الشرق أوسطية، والآتي من بعيد للإمساك بها، يمكنه أن يضرب عرض الحائط إلزامية توقيعه الصفحة المنقّحة من اتفاق كوينسي اذا أراد للتحالف التاريخي بين العرب والولايات المتحدة أن يترسّخ على أسس متينة وصلبة ومستدامة.
في لقائه مع زعماء الخليج والدول العربية الأساسية، سيسمع بايدن من القادة العرب والخليجيين جملة تحفظات واعتراضات نابعة من تجربتهم المرّة مع الحليف الأميركي الذي تنازل في فترة زمنية أشد ما تكون حساسية وخطورة عن مصالح حلفائه.
فأي تحالف شرق أوسطي لن يُكتب له أن يُبصر النور ما لم تتعهد الولايات المتحدة أمن المنطقة بصورة دائمة وفاعلة ومتجددة، وضمان أمن المنطقة يعني بالطليعة ضمان أمن الحلفاء العرب والخليجيين والدول العربية المشاركة، حيث تلتزم واشنطن التواجد والدعم المباشر لحلفائها.
وأي توقّف عربي خليجي عن التعامل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتطلب بالمقابل من واشنطن وقف التعامل نهائياً مع إيران، فلن يُكتب لحلفٍ شرق أوسطي النجاح إن لم تتوقف واشنطن عن تخادمها مع إيران، ومسايرتها لها، والهرولة نحو إبرام اتفاق معها على حساب المصالح الخليجية العربية.
فلا يستطيع الرئيس بايدن الطلب من العرب وقف التعامل مع الروس طالما أن واشنطن لا توقف تعاملها مع إيران، لأن تعامل العرب مع الروس جاء نتيجة تخلّي واشنطن عن حلفائها التاريخيين في المنطقة، ما دفع بهم الى الإحتفاظ بحرّية التحرّك والتعامل والتوجّه نجو الشرق، سواء الصين أو روسيا لضمان مصالحهم. اذا أراد الرئيس بايدن وقف هذا التوجه الشرقي عليه أن يثبت وقف التخادم بين السياسة الأميركية والسياسة الإيرانية لا بل الحاجات الإيرانية.
فاتفاق 2015 النووي بين الأميركيين وإيران وقع رغم إرادة الحلفاء الإقليميين وعلى حسابهم، وقد انصرفت واشنطن عنهم واتجهت نحو طهران غير آبهة بمصالح وحقوق الدول العربية والخليجية، وبالتالي على الرئيس بايدن أن يقتنع بأن اتفاقه مع العرب والخليجيين أقرب له وأفضل من الاتفاق مع إيران على حساب حلفائه الإقليميين، تماماً كما فضّل الرئيس روزفلت الإتفاق مع العرب لبناء نظام إقليمي حليف ومستقر ومتطور لأكثر من 80 عاماً.
اذا أراد الرئيس بايدن تحالفاً إقليمياً فعليه أن يقبل بفكرة أولوية المصالح الأميركية- العربية على ما عداها من مصالح في الخليج، واذا كان المطلوب تجنّب الحرب مع إيران فمن باب أولى أن يكون المطلوب تجنّب خسارة واشنطن نهائياً لحلفائها التقليديين.
وإذا كان المطلوب من المفاوضات إيقاف إيران عن تصنيع القنبلة النووية، فلماذا لا يتم إيقافها عن ذلك بإعادة تطبيق نظام العقوبات التي أُخرجت منها عام 2016، تماما كما يتم تطبيق نظام عقوبات على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بفعل حربه على أوكرانيا؟
اذا أرادت واشنطن عزل الرئيس الروسي بوتين عربياً وإخراجه من أوبيك بلاس، فالعرب يريدون من أميركا أيضاً عزل إيران وإخراجها من أي اتفاق نووي عبر الضغوط التي كانت تمارس عليها قبل اتفاق 2015.
طلب مساعدة العرب والخليجيين على إخراج الرئيس بوتين من أوكرانيا يقابله بالمثل طلب عربي خليجي من الأميركيين بإخراج إيران من أربع دول عربية محتلة (لبنان – سوريا – اليمن – العراق).
فالشراكة الحقيقية والفاعلة بين الولايات المتحدة الأميركية والعرب والخليجيين هي المعادلة الذهبية المطلوبة إذا أراد الرئيس بايدن بناء تحالف إقليمي متين وصامد وهادف، وكسب ثقة الحلفاء التاريخيين مجدداً بعد النكسات التي منيوا بها من سياسات واشنطن المتقلّبة والمصلحية.
والشراكة الحقيقية والفاعلة هي القادرة وحدها على تفكيك محور الصين - روسيا -إيران إن صدقت واشنطن في التزامها وتعهدها أمن المنطقة والحلفاء، بعد ترميم الثقة المصابة بعطل كبير، والا فإنه ليس للعرب والخليجيين ما يخسروه، وهم حالياً في موقع متقدّم من التطور والنمو والازدهار، وهم منفتحون على الصين وروسيا اقتصادياً واستثمارياً وسياسياً وعسكرياً وتكنولوجياً بما يؤمن البدائل عن أميركا وعدم تعاونها الجدي والصادق معهم.
فالمشهدية ترتسم وفقاً للمعادلة القائلة بإنه، وبقدر احتياج الرئيس بايدن للدول العربية والخليجية في مواجهة الروس والصين، يحتاج العرب والخليجيون الى واشنطن لمواجهة إيران من دون اتفاق ولا تسويات ولا صفقات، بل بالعودة الى نظام العقوبات والضغوط الشديدة التي كان مطبقاً عليها منذ ما قبل اتفاق 2015، لأن طهران في نهاية المطاف لن تقبل بالتنازل عن الحرس الثوري ولا التنازل عن تصدير ثورتها الى المنطقة، كما لن تقبل بفكّ احتلالها عبر أذرعها وميليشياتها لأربع دول عربية، فضلاً عن قطاع غزة، الا من اللحظة التي تشعر فيها أن نظامها من الداخل مهدّد بالسقوط.
بالأمس أعطت إسرائيل واشنطن الضوء الأخضر للمضي قدماً في الاتفاق على تسوية قضية جزيرتي تيران وصنافير مع مصر والسعودية، وهي خطوة تمهّد الطريق للإعلان عن إجراءات التطبيع السعودية، إذ سيسمح الاتفاق بين الولايات المتحدة والمملكة باستخدام شركات الطيران الإسرائيلية للمجال الجوي السعودي للرحلات الجوية الى الشرق، وبخاصة الى الهند والصين، ومنح رحلات طيران مستأجرة مباشرة من إسرائيل الى السعودية لحجاج إسرائيليين الى السعودية.
لكن يبقى أن أياً من هذه الإجراءات التطبيعية، ومن خلالها الساعية لبناء تحالف إقليمي، منوطة بمدى استجابة الرئيس بايدن لمتطلبات العرب والخليجيين، هذا اذا أراد فعلاً تدشين اتفاق كوينسي 2 تاريخي .