إنطلاقاً من أحداث العراق الأخيرة، وعطفاً على مواقف الرئيسين الأميركيين السابق باراك أوباما والحالي جو بايدن من دول المنطقة، برزت مجدداً ما يمكن اعتباره أزمة واشنطن مع ديمقراطيتها في المنطقة عبر البوابة العراقية، والتي تعمّق أزمة الثقة بينها وبين حلفائها التاريخيين في الشرق الأوسط.وكأن القدر يلقي بثقله لزيادة التباعد بين الأميركيين ودول المنطقة لحساب التقارب الإيراني إستعادةً لفلسفة لدى الديمقراطيين الأميركيين قوامها اعتبار الدول العربية عبئاً على واشنطن، في نفس الوقت كونها ضرورة لا تزال مفروضة عليها بحكم المصالح الاقتصادية والطاقة والجيو سياسية.فمع احتلال واشنطن للعراق عام ٢٠٠٣، إنطلقت شعارات إرساء الديمقراطية في العراق وكان ذلك في ظل حكم الجمهوريين في البيت الأبيض مع الرئيس الاميركي الأسبق جورج دبليو بوش، وكان حاكم العراق برا بريمر آنذاك يعتقد جازماً أن العملية السياسية لا تكتمل في بغداد الا بانضمام الفصائل السياسية كافة الى العملية السياسية، فشكّل هذا التفكير المدماك الأول لبناء متزعزع ولانطلاقة خاطئة لإعادة نهوض العراق لأنه تبيّن لاحقاً أنه، بموازاة فشل رهان الرئيس الأسبق باراك أوباما على الأخوان المسلمين في العالم العربي لتقريب واشنطن من شعوب المنطقة، كان هناك فشل أميركي آخر في العراق مكّن إيران من السيطرة شيئاً فشيئاً على مفاصل الدولة وثرواتها نهباً وسرقةً واستباحةً وزرعاً لوكلائها الداخليين الولائيين.
وهكذا بدل أن تُحسن واشنطن زرع الديمقراطية في العراق زرعت الاحتلال الإيراني وتقاسم النفوذ بينها وبين طهران الى أن انسحبت واشنطن عسكرياً من العراق لتتركه لقمة سائغة في فم الأخطبوط الإيراني، دينياً وسياسياً وعسكرياً.وفي ظل التخادم الأميركي- الإيراني، استمر العراق متعثراً فيما نشطت الجماعات الموالية لإيران في العبث بالبلاد والعباد والمقدّرات ليتحوّل العراق الى الحديقة الخلفية الأولى لحماية مصالح النظام الإيراني وممارسة طهران سطوتها عليه والإمساك بورقته كقاعدةٍ متقدمة في المواجهة الإقليمية والدولية.ما حصل في العراق خلال الأيام القليلة الماضية أثبت بشكل منقطع النظير التناغم الكبير بين مواقف واشنطن ومواقف طهران حيال أحداث بغداد، حيث تطابقت مواقف البلدين وبياناتهما في الدعوة الى التهدئة والهدوء والمعالجة السياسية الهادئة للخلافات ودعوة الأطراف الى طاولة المفاوضات والحوار، وقد تركز تناغمهما على التيار الصدري الذي هو نقيض الفصائل الحزبية والسياسة الإيرانية في العراق، لا بل الاحتلال الإيراني للعراق.
المواقف الأميركية والإيرانية المتطابقة حيال أحداث بغداد الأخيرة والداعية للحوار والتفاوض مؤداها إلغاء مفاعيل نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة في العراق التي انتصر فيها التيار الصدري انتصاراً ساحقاً، ما أسّس لمطالبته المشروعة بتشكيل حكومة أكثرية، الأمر الذي رفضه أتباع إيران في العراق من شخصيات وقوى وأحزاب، وقد واجهوا مطالبات الصدر المشروعة بمعادلة مضادة مفادها الاتفاق مع كل القوى على تقاسم "كعكة السلطة" بما يعني إلغاء نتائج الانتخابات عملياً، تماماً كما يحصل في لبنان حيث يحاول الولائيون لإيران من حزب الله والتيار الوطني الحر الالتفاف على نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة والتي أفرزت أكثرية نيابية خارج محور الممانعة وعلى نقيض تام معه من خلال التصرف وكأن لا أكثريات ولا نتائج كوّنت كتلاً نيابيةً كبيرةً ووازنة من فريق ١٤ آذار السيادي والتغييري.
والملفت في موضوع بيانات واشنطن ومواقفها من أحداث العراق الأخيرة أن تطابق مضامينها مع مضامين مواقف طهران عنت أن واشنطن أيضاً تدعو بطريقة غير مباشرة من خلال الحوار الى إلغاء مفاعيل نتائج انتخابات العراق البرلمانية بإلغاء الأكثرية الصدرية التي انبثقت عن تلك الانتخابات، فواشنطن التي سبق لها أن احتلت العراق بحجة تصدير الديمقراطية اليه نجدها اليوم حليفة إيران في إزهاق روح الديمقراطية فيه.السفير روبيرت فورد في مقالة له مؤخراً في صحيفة الشرق الأوسط كشف أخطاء واشنطن، لا سيما في دعم نور المالكي للبقاء في السلطة عبر ترؤس الحكومة مرتين، ما مكّن الأخير من ممارسة فساده على المؤسسات العراقية، وقد كان الرئيس جو بايدن آنذاك نائباً للرئيس أوباما، فيما كان وزير الخارجية أنطوني بلينكن مستشاراً للأمن القومي في عهد أوباما.وقد مارست واشنطن آنذاك وفي العام ٢٠٠٩ تحديداً ضغوطاً على السيد أياد علاوي الذي خرج منتصراً في الانتخابات في مواجهة نور المالكي لتسليم السلطة للأخير بدا علاوي صاحب الحق الديمقراطي في تشكيل الحكومة وترؤسها.يومها كانت واشنطن تفاوض طهران على انسحابها من العراق وتستعد لتوقيع إتفاقية استراتيجية مع العراقيين، فكانت ثمة حاجة أميركية لمغازلة إيران بحيث انتزعت رئاسة الحكومة العراقية من أياد علاوي صاحب الحق الدستوري والديمقراطي لصالح المالكي خلافاً لنتائج الانتخابات التي كانت جاءت لصالح علاوي، وعليه فقد "داست" واشنطن" على الديمقراطية ومبادئها من خلال انتهاك البيت الأبيض لنتائج الانتخابات البرلمانية.
واليوم يعيد التاريخ نفسه مع وقوف واشنطن الديقراطيين الى جانب طهران والدوس مجدداً على نتائج الانتخابات البرلمانية والديمقراطية في العراق منذ أكثر من عشرة أشهر من خلال حرمان الصدريين من تشكيل حكومة ما بعد الانتخابات وترؤسها.أولوية واشنطن حالياً هي الاتفاق النووي مع إيران ومَن يدفع مرة أخرى ثمن تلك الأولوية الأميركية الجديدة هو العراق والعراقيين كما الشرق الأوسط برمته بما فيه إسرائيل، ومرة جديدة أيضاً تدفع الديمقراطية كمفهوم ومبادىء ثمن استراتيجية واشنطن "المصلحية" ما أدى ويؤدي الى فقدان شعوب المنطقة ثقتها بتلك الديمقراطية الأميركية المزيفة وغير المنصِفة.
فأزمة الديمقراطية اليوم ليست في العالم العربي بقدر ما هي في قلب الفكر الديمقراطي الأميركي نفسه، حيث واشنطن الديمقراطية تنادي بها وتفعل عكسها ما يزيد من منسوب فقدان الثقة بها من جانب حلفائها ويفتح مجالات التحوّل عنها الى حلفاء آخرين مثل روسيا والصين الأكثر انسجاماً بين مبادئهم وممارساتهم وسياساتهم.
إشكالية الديمقراطية الأميركية في المنطقة والعراق هي في تحوّلها الى أداة سياسية أو سلاح مسيّس يستهدف من خلاله الأميركي تحقيق مصالحه الحيوية ولو تطلب ذلك التضحية الفعلية بالمبادىء.
وبعد ذلك هل نسأل عن مصداقية أميركية لدى شعوب الشرق الأوسط ؟