جورج ابو صعب كاتب ومحلل سياسي
اذا طرحنا جانبا الصخب والضجيج المتصاعد من ملف التوتر الروسي الغربي وحاولنا قراءة ما يجري بعقل ومنطق جيو سياسي هادىء يمكننا تسجيل الملاحظات التالية :اًولا : وان كانت اوكرانيا في الظاهر هي المستهدفة ومحط التجاذب الحاد بين موسكو والمعسكر الغربي لا ان الحقيقة ان اوكرانيا ليست سوى صندوق بريد لصراع اكبر واشمل واخطر . فاذا عدنا قليلا الى الوراء بالزمن نراجع ما تضمنه بيان القمة المشترك الصيني الروسي في اوائل شهر فبراير / شباط الحالي نجد ان موسكو لا تنوي حقيقة في غزو اوكرانيا بقدر ما تسعى لتحقيق مكسبين جيو سياسيين رئيسيين هما : شق صف الناتو وبخاصة ابعاد الاميركيين من اوروبا من جهة واستغلال ضعف واشنطن الدولي في ظل الانسحاب الذي بدأته الادارة الديمقراطية من الساحات الدولية لتركيز مجهوداتها على الصين كما يقال .يكفي ان نلاحظ عدم اقدام الصين على سحب رعاياها واقفال او سحب طاقم سفارتها من كييف كي نفهم الكثير الكثير مما يدور في خلد الرئيس بوتين ثانيا : من يقرأ ما تضمنه البيان الروسي الصيني المشترك يفهم ان امام الدولتين هاجسين اميركيين : تحالف اوكوس بين الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا والتهديد الاستراتيجي الذي يمثله للصين وضرورة الايفاء بالتزاماتهم بشأن عدم انتشار الأسلحة النووية والصاروخية لحماية السلام والاستقرار والتنمية فى المنطقة - وتخلي الاميركيين عن خطط نشر صواريخ متوسطة وقصيرة المدى فى منطقة آسيا والمحيط الهادئ وأوروبا فضلا عن ضمان خط غاز نورد ستريم ٢ الروسي والذي يهم الروس استمراره لتغذية اوروبا من بوابة المانيا . وبالتالي في هذه الملفات يتركز الاهتمام الصيني الروسي وموسكو بتهويلها بالورقة الاوكرانية انما تسعى اولا للضغط على الاميركيين قبل الاوكرانيين خاصة وان هدف الرئيس بوتين الاستراتيجي ابعاد الاميركيين من العمق القاري الاوروبي المتقارب مع روسيا من هنا يمكن فهم الاندفاعة الاميركية والحماسة في اطلاق التهديدات والتحذيرات ضد موسكو وفي شيطنة الحشود العسكرية والتلويح بالعقوبات القاسية وباجراءات كارثية على موسكو في حال الغزو في وقت يطبخ ساكن الكرملين على نار هادئة خطة اضعاف واشنطن اوروبيا وتفكيك الناتو تمهيدا لضمان علاقات روسية اوروبية متوازنة تحفظ مصالح روسيا في اوروبا بدأ من المانيا .ثالثا : يلعب الرئيس بوتين ورقة اوروبا عبر المانيا - وللعلم ان الرئيس بوتين تهمه المانيا اكثر من اوكرانيا من جهة لان الالمان يتغذون بالغاز الروسي بنسبة ثلث حاجتهم ومن جهة ثانية لان الالمان تهمهم العلاقات المتينة مع موسكو بعدما كانت المانيا تاريخيا سببي اندلاع الحربين العالميتين الاولى والثانية وسبب الحرب الباردة . فموسكو بوتين يهمها تفكيك التحالف الغربي واستمالة الالمان ومن خلال ذلك اضعاف الوحدة الاوروبية واضعاف التأثير الاميركي عبر الناتو تمهيدا لتفكيكه ( الرئيس الفرنسي امانويل ماكرون لم يتوانى منذ فترة عن وصف الناتو بالميت كلينيكيا ) .من هنا يمكننا فهم ما يجري حاليا من تفاوض تزامن فيه انسحاب جزئي للقوات الروسية المرابضة على الحدود مع اوكرانيا مع وجود المستشار الالماني شولتس في موسكو ودعوة الرئيس الاوكراني الى يوم وطني الاربعاء الماضي في البلاد للحرية فيما لهجة واشنطن لا تزال متشددة حيال موسكو وفي احسن الاحوال حذرة فيما يبدو احيانا من مواقفها ومواقف الرئيس بايدن ان واشنطن تذكي الخلافات وشد العصب الغربي الاوروبي اكثر مما تسعى الى التهدئة والتفاوض مع الرئيس بوتين ربما نتيجة تحسس الاميركيين بحقيقة استراتيجية بوتين باخراجهم من المعادلة الاوروبية فيما الموضوع بالنسبة لواشنطن لا يعدو كونه الا مرحلة تمهيدية لفتح باب الصراع مع الصين . رابعا : ليس عبثيا ان يرد في نص البيان الروسي الصيني المشترك ذكر دخول العلاقات الدولية حقبة جديدة ذاك ان ما يرسم من خرائط تحالفية جديدة على مساحة المنطقة والعالم وما يجري من خلط للاوراق الدولية والاقليمية سرعان ما سيلقي بظلاله على كافة ملفات المنطقة والعالم : وقد باتت كلا من روسيا والصين صديقين لاسرائيل ودول الخليج وواشنطن بانسحابها من افغانستان دشنت مرحلة انسحاباتها من اوروبا وافريقيا ما يعني انتصار على مراحل يحققه الثنائي الصيني الروسي على انقاض الديمقراطيات العريقة التي باتت في سبيل اقتصادياتها اشبه بدول منعزلة عن بعضها تسعى كل واحدة الى خلاصها وقد تكون استمالة المانيا بداية تفكك للاتحاد الاوروبي ان لم نقل تفكك وانتهاء لحلف الناتو الذي اراد الرئيس بوتين يوما الانضمام اليه عندما جوبه بالرفض الاميركي .وبين هذا وذاك يجمد مشروع انضمام اوكرانيا الى الاتحاد الاوروبي ويؤجل امر انضمامها الى الناتو الا في حال تنازلها عن مقاطعة دونباس ودونيتسك ما سيعتبر بنظر الاوكرانيين الوطنيين خيانة ويتسبب في حالة عدم استقرار داخلي طويل الامد وفقدان ثقة بالغرب الذي سيكون شبيه بفقدان ثقة التشكوسلوفاكيين بالغرب غداة اتفاقية ميونخ الشهيرة مع هتلر والتي سلخت منها مقاطعة السوديت في حينه . لكن يبقى السؤال : هل تنهض السياسة الاميركية من جديد وتغير المعادلات الحالية وتعيد خلط الاوراق ام ان السبات الديمقراطي سيستمر ومعه تراجع العالم الحر ؟ يبقى ان مرحلة ما قبل ازمة اوكرانيا لن تكون دوليا واقليميا كما كانت قبل . شيىء ما بدأ يرسم معالم نظام عالمي جديد .واذا كانت اوكرانيا مساحة متنازع عليها بين روسيا والغرب حيث لطالما اعتبرتها روسيا العمق الاستراتيجي لتمددها غرب اوروبا بينما الغرب لطالما اعتبرتها العمق الغربي الاقرب الى روسيا . فالرئيس بوتين يسعى حاليا الى ترجيح كفته في جعل اوكرانيا امتداد روسي له فيما ٨٥./. من الغاز الروسي يمر عبر اوكرانيا الى اوروبا .فلعبة الشطرنج على نار حرب حامية والمناطق الانفصالية شرقي اوكرانيا ستكون الطبق الاساسي للتطورات وقد باتت في حالة اشتعال مع تبادل القصف بين الجيش الاوكراني والانفصاليين في الدونباس .