كتب رياض قهوجي في صحيفة النهار:
انتهت حرب إسرائيل على لبنان باتفاق لوقف إطلاق النار قاد المفاوضات فيه عن الجانب اللبناني، وبتفويض علني من “حزب الله”، رئيس مجلس النواب نبيه بري. الاتفاق الذي حاز ضمانات الوسيط الأميركي وبدعم فرنسي، أنهى فعلياً هدف وجود سلاح “حزب الله” عبر إلزامه نقل مقاتليه وسلاحه إلى شمال الليطاني، بعيداً عن الحدود المباشرة مع إسرائيل. كما نص الاتفاق على حصرية السلاح بيد الجيش اللبناني الذي كلف الانتشار على الحدود ومرافق السفر جواً وبحراً وبراً لمنع دخول أسلحة إلى الحزب. طبعاً هذا كله ضمن القرار الدولي 1701، وبالتالي ستشارك قوات اليونيفيل المدعمة بلجنة رقابة دولية تضم ضباطاً من الولايات المتحدة وفرنسا، بالإشراف على حسن تطبيق بنود الاتفاق، وتحديداً الشق المتعلق بعدم الوجود العسكري للحزب جنوب الليطاني وبإغلاق أي منشآت للحزب لتصنيع الصواريخ ولمنع مد الحزب بأي أسلحة من الخارج.
المستفيد الأكبر من هذا الاتفاق هو مؤسسة الجيش اللبناني التي ستكون لديها – مع الأجهزة الأمنية الأخرى – حصرية استخدام السلاح وتصنيعه واستيراده بحسب قرار دولي وافقت عليه الحكومة اللبنانية رسمياً. طبعاً قيادات “حزب الله” ليست سعيدة بهذا الواقع الجديد، اذ أنها ما لبثت تشكك بكفاءة الجيش وقدرته على حماية لبنان ضد الاعتداءات الإسرائيلية. تجدر الإشارة هنا الى أن الحرب الأخيرة أثبتت أن سلاح “حزب الله” لم يحمِ الشعب اللبناني ولم يردع إسرائيل كما كان يدّعي قادته على مدى سنوات، إنما “حزب الله” سيواجه مشكلة في تقبّل الواقع الجديد والمتغيرات الكبيرة جداً التي شهدتها الساحة اللبنانية منذ 17 أيلول (سبتمبر) الماضي، فقوته المسلحة مكنته من الهيمنة على قرار الدولة خلال العقدين الماضيين. كما أن دوره العسكري الأساسي ضمن استراتيجية إيران بالدفاع المتقدم هي ما وفرت له الدعم المالي والعسكري الكبير من طهران وأعطته نفوذاً ودوراً إقليميين.
وبناءعليه، فإن قيادة “حزب الله”، أو ربما بعض قياداته، ستنكر واقعاً جديداً أوجدته الضربات الكبيرة من جانب إسرائيل لبنية الحزب العسكرية والمالية والاقتصادية والاجتماعية، وعمليات الاغتيال لغالبية قادة الصفين الأول والثاني وحتى الثالث. وقد تجد هذه القيادة نفسها بمواجهة مباشرة مع الجيش اللبناني إذا قررت الالتفاف على بنود الاتفاق ومنع الجيش من ممارسة مهماته. وقد تبدأ هذه الاحتكاكات عندما تتسلم اللجنة الدولية المشرفة على تنفيذ الاتفاق قائمة بمواقع يعتقد أن فيها أسلحة للحزب جنوب الليطاني، أو منشآت لتصنيع الصواريخ على الأراضي اللبنانية، أو إذا تم اعتراض شحنة أسلحة لمصلحة الحزب على الحدود، فالجيش اللبناني سيلتزم تنفيذ بنود الاتفاق بناء على قرار مجلس الوزراء. وعليه، ماذا سيفعل “حزب الله” حينها؟ هل يرضى بالواقع الجديد أم يواجه الجيش؟
مصادر الرئيس بري تشدد على أن الاتفاق ملزم للجميع وعلى أن الجيش اللبناني هو خط أحمر لن يسمح لأحد بالمس به، فرئيس المجلس لم يؤيد منذ اليوم الأول مسألة ربط الساحات، وكان يشدد على ضرورة تنفيذ القرار 1701 بحذافيره لتجنيب لبنان بشكل عام، وسكان الجنوب والبقاع بشكل محدد، مأساة حرب مدمرة – بخاصة بعدما كان جميع اللبنانيين قد شاهدوا حجم الإجرام والشراسة في حرب إسرائيل على غزة. ولذلك ساهم في صوغ اتفاقية تمنع اندلاع حرب جديدة، يدفع اللبنانيون، وتحديداً الشيعة، ثمنها من قتل ودمار وخسارة أرض. ويمكن وصف اتفاق وقف إطلاق النار بأنه آلية لتفعيل دور الدولة عبر إعطاء جيشها دوره الطبيعي بحماية الحدود وحصرية حمل السلاح. وسيشكل هذا الاتفاق حجر الأساس لأي استراتيجية دفاعية قد ترسمها الحكومة المقبلة.
وفيما قد يصوب مسؤولو “حزب الله” سهامهم على الجيش اللبناني لضرب مصداقيته وهيبته، فإن الرئيس بري وفريقه السياسي سيكونان على الطرف الآخر، أي طرف المدافعين عن الجيش. امتلاك الجيش اللبناني الغطاء السياسي سيمكّنه من فعل الكثير في ترسيخ الأمن وفرض هيبته، فهو لطالما امتلك القدرة على ذلك، إنما كان يفتقر إلى الغطاء السياسي. كما أن الجيش سيحصل على دعم في المال والعتاد من قوى خارجية تمكنه من تنفيذ المهمات المطلوبة منه وتوفير رواتب مقبولة لعناصره وضباطه.
وفي ما يخص حماية السيادة، فإن تاريخ الجيش حافل بذلك، إذ إنّ جنوده وضباطه وقفوا مرات عدة بوجه الجنود الإسرائيليين ومنعوهم من تجاوز الحدود، ولم يتوانوا عن الرد بالمثل عندما كان الإسرائيليون يفتحون النار عليهم. ولقد سقط للجيش اللبناني عشرات الشهداء في جنوب لبنان، وفي الدفاع عن حدوده شمالاً وضد “داعش” في معركة فجر الجرود.
أكثر انتقادات بعض السياسيين اللبنانيين للجيش هي أنه يفتقر إلى الأسلحة الحديثة والدفاعات الجوية وما شابه. لكن المؤسسة العسكرية ليست من يجب أن يلام على ذلك، فالجيش اللبناني يعتمد بنسبة مئة في المئة على مساعدات من الخارج لتحديث عتاده وسلاحه، وبالتالي لا يستطيع أن يشترط على الجهات المانحة نوع الأسلحة التي يجب أن تقدمها له. وقد تقدمت قيادة الجيش على مدار العقدين الأخيرين بطلبات عدة لرصد موازنة تمكنها من شراء منظومات دفاع جوي وسلاح طيران وقطع بحرية، ولكن طلباتها كافة كانت تقابل بالرفض والتشكيك من الحكومات المتعاقبة، بخاصة تلك التي كان “حزب الله” وفريقه يهيمنان عليها، فالحزب يريد أن يكون القوة العسكرية الأقوى في لبنان للهيمنة على الحكم والاحتفاظ بقراري الحرب والسلم، وبالتالي ليس من مصلحته أن يكون هناك جيش قوي مجهز بأسلحة حديثة.
هذا يفرض على الحكومة المقبلة أن ترصد نسبة مئوية من الموازنة السنوية لحاجات الجيش من الأسلحة الحديثة، لتخفيف اعتماده على المساعدات ولتكون لديه أسلحة نوعية. فمقولة إن المجتمع الدولي متآمر ويرفض بيع الجيش ما يريده ليست دقيقة. فإذا ما توافر المال، هناك مصادر عدة يستطيع الجيش اللبناني الحصول على حاجاته منها.